قضايا وآراء

تركيا والجغرافيا السياسية السورية

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

مما لا شك فيه أن روسيا وتركيا سوف تتوصلان إلى تفاهم أو اتفاق حيال إدلب ولو بعد حين، فمن دون ذلك قد تتدحرج الأمور إلى نقطة الصفر العسكري والسياسي، وخسارة ما تم إنجازه خلال السنوات الماضية، وهذا خط أحمر لا ترغب العاصمتان في الوصول إليه كل لأسبابه، على الأقل في المدى القريب والمتوسط.

بين الدولتين مصالح متداخلة في عموم المنطقة حتمت عليهما التقارب، لكن بينهما بالمقابل تباينات حادة داخل سوريا وخارجها، ما يجعل العلاقة بينهما محكومة بالمصالح الآنية لا الاستراتيجية بعيدة المدى.

الصراع على إدلب

الخلاف في إدلب يعطي صورة واضحة لهذا التباين، فالخلاف ليس على أرض هنا أو هناك، إذ يمكن لتركيا أن تتحمل خسارة بعض المناطق في إدلب مقابل الحصول على الكثير من روسيا، ويمكن لروسيا أيضا أن تتحمل بقاء بعض المناطق خارج سيطرة النظام السوري لضمان استمرار العلاقة مع تركيا.

يكمن الخلاف الحقيقي والدائم في الجغرافيا السياسية: الروس يعتبرون أن الساحة السورية جزء من الفضاء الجيوبولوتيكي لدولتهم، في حين تعتقد تركيا العكس، خصوصا في المناطق المحاذية لها، الروس يعتقدون أن أي تغيير أو تثبيت للخرائط العسكرية يجب أن يمر عبر بوابتهم، في حين يعتقد الأتراك أن ما تم تحصيله أصبح قائما وجزءا من المجال الجيوبولوتيكي لدولتهم، ويتجاوز العلاقة مع روسيا.

الروس نظروا إلى العلاقة المتصاعدة مع تركيا من بوابة الصراع بين الشرق والغرب، في حين نظرت تركيا لعلاقتها مع روسيا من البوابة السورية فقط.

 

يكمن الخلاف الحقيقي والدائم في الجغرافيا السياسية: الروس يعتبرون أن الساحة السورية جزء من الفضاء الجيوبولوتيكي لدولتهم، في حين تعتقد تركيا العكس،


اختلاف الرؤي هذا، جعل الروس يعتبرون أن أي تحرك معاد لتركيا في سوريا مجرد تفصيل صغير خاضع لمتطلبات الحل النهائي للأزمة السورية، ولن يكون له تداعيات على صعيد العلاقة المتصاعدة بين الدولتين، في حين نظر الأتراك إلى الخطوات الأحادية الروسية في إدلب على أنها تهديد خطير لأمنها القومي، وتهدد العلاقة بين الدولتين.

والحقيقة أن اختلاف الرؤى هذا، ناجم عن اختلاف في المواقع الجغرافية لكليهما، فمع أن سوريا جزء من الفضاء الجيوسياسي لروسيا، إلا أنها تقع في الفضاء البعيد وليس القريب لها، على عكس تركيا، حيث تعتبر سورية جزءا من الفضاء القريب وربما الداخلي، وهذا ما يفسر كلام الرئيس التركي، حين كرر مرتين مقولته بأن أي نضال لا نخوضه الآن في سوريا سنضطر إلى خوضه لاحقا داخل تركيا.

ليست الجغرافيا السياسية مجرد تأثير الجغرافيا على السياسة، بل أيضا تأثير السياسة على الجغرافيا.

وما يحدث في سوريا بالنسبة لروسيا وتركيا، هو أن الأولى جسدت تأثير السياسة على الجغرافيا، في حين جسدت تركيا مقولة تأثير الجغرافيا على السياسة، في الحالة الأولى ثمة فعل، وفي الحالة الثانية ثمة رد فعل.

استطاعت روسيا منذ تدخلها في سوريا أن تطوع الجغرافيا وتفرض منطقها السياسي الاستراتيجي، في حين فشلت تركيا في ذلك، علما أن تدخلها المباشر في الشأن السوري يسبق التدخل الروسي بسنوات.

لم تستطع تركيا خلال السنوات التي سبقت التدخل الروسي، أن تطوع الجغرافيا السورية لسياستها، فأضاعت الكثير من الفرص، وجعلت من نفسها مثيلا لدول أخرى بعيدة عن سوريا.

أخطاء سابقة

أحد الأخطاء الكبرى في الاستراتيجية التركية، أنها لم تستغل الإلحاح الأمريكي عام 2014 ـ 2015 لتشكيل جبهة عسكرية مهمتها محاربة "تنظيم الدولة الإسلامية" وترك أو تأجيل الصراع مع النظام السوري، ولو فرضت تركيا آنذاك على فصائل المعارضة الانخراط في المشروع الأمريكي، لما كان اليوم ثمة وجود عسكري كبير لـ "الوحدات الكردية"، ولما وجد التهديد الكردي بالأساس، وهو تهديد أجبر أنقرة على إجراء تغيير في أولوياتها داخل الساحة السورية، وجعلها مضطرة إلى قرع أبواب الكرملين بعدما أوصدت أبواب البيت الأبيض.

يعلمنا التاريخ وجود قرارات سياسية كان لها تأثير كبير في الجغرافيا، كما يعلمنا أيضا أن التأخر في إصدار القرارات والتحرك العاجل قد يجعل الجغرافيا عبئا على السياسة.

 

ما يحدث في سوريا بالنسبة لروسيا وتركيا، هو أن الأولى جسدت تأثير السياسة على الجغرافيا، في حين جسدت تركيا مقولة تأثير الجغرافيا على السياسة، في الحالة الأولى ثمة فعل، وفي الحالة الثانية ثمة رد فعل.


لقد تحولت الجغرافيا السورية اليوم عبئا على تركيا، بعدما كانت لسنوات مفتوحة أمام الأتراك لتفريغ سياستهم، وهذا الواقع هو الذي يجعل تركيا بحاجة إلى دعم غربي لمواجهة الروس في بعض اللحظات، وجعلها تلجأ إلى الشرق لمواجهة الغرب في لحظات أخرى.

يدرك صناع القرار هذا الواقع الصعب، ويبدو أنهم غير قادرين على تغييره، فقد فات الآوان، وأي محاولة لتغيير هذا الواقع ستؤدي إلى تغيير في خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، وستكون ذات ثمن باهظ ستدفعه تركيا وحدها، بعدما أصبحت الولايات المتحدة خارج معادلة الانخراط العسكري المباشر، ليس بسبب ترامب أو أوباما، وإنما بسبب حدوث ثلاثة متغيرات أمريكية: تراجع السيولة المالية نتيجة ضعف في الاقتصاد، غياب الاستعداد الشعبي للانخراط العسكري في أي مكان، ضعف السيطرة السياسية الأمريكية على اليابان وأوروبا.

أمام هذا الواقع الجيوسياسي، تبدو تركيا مطالبة أو مضطرة إلى إعادة تطويع الجغرافيا السورية، وإلا تحولت هذه الجغرافيا إلى بؤس سيؤرق الأتراك لسنوات لاحقة.

كاتب وإعلامي سوري

التعليقات (0)