هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تحذيرات رئيس منظمة الصحة
العالمية حول ضرورة أن يضرب العالم بقوة الآن وبسرعة فيروس «كورونا» المستجد، وإلا
تضيع الفرصة وتخرج الأمور عن السيطرة، يعطي مؤشر قلق؛ ليس للصين وحسب، وإنما أيضا
للعالم بأسره. فالفيروس يتمدد شرقا وغربا، في كوريا واليابان وإندونيسيا وأستراليا
والفلبين وماليزيا وإيران ولبنان وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة، وغيرها.
صحيح بنسب وعدد حالات متفاوتة؛ لكن تظل الدلالة واضحة، وهي قدرة الفيروس على
التمدد عالميا بسبب انتقاله عبر حامليه البشريين، حتى ولو لم تظهر عليهم علامات
المرض بوضوح. وهو تمدد نتيجة حرية السفر والانتقال من بلد إلى آخر، وتلك بدورها
إحدى سمات حالة العولمة التي تسيطر على حركة العالم بأسره؛ حيث تتشابك المجتمعات
والاقتصادات على نحو يجعل مُصاب الصين هو مُصابا للعالم كله.
انتشار الأوبئة عبر مجتمعات تبدو متباعدة
جغرافيا ليس أمرا جديدا في التاريخ الإنساني. وتاريخ انتشار الأوبئة الكبرى،
كالطاعون والحمى والجدري والجرب والسل والجذام والملاريا والحمى الصفراء، منذ أكثر
من خمسمئة عام، يثبت أن الانتقال والاحتكاك المباشر بين مجموعات بشرية مختلفة يؤدي
إلى حدوث وباء، أو عدوى سريعة الانتشار، تنتج عنها وفيات تصل إلى عدة ملايين،
وتتسبب عنها هجرات عظيمة إلى مناطق أكثر أمنا.
وفي الكتاب القيم لمؤلفه شيلدون واتس،
والمترجم من قبل المجلس القومي للترجمة بمصر عام 2010، بعنوان «الأوبئة
والتاريخ... المرض والقوة والإمبريالية»، استعراض لحالات وباء خطيرة عديدة مرت بها
مجتمعات قديمة وحديثة نسبيا، وكانت لها نتائج إنسانية واقتصادية وعلمية في غاية
الأهمية. وقد رصد المؤلف أمرين جديرين بالانتباه؛ الأول أن انتشار الوباء حدث بسبب
مخالطة البشر بعضهم ببعض، واختلاطهم مع أنواع من الحيوانات والقوارض التي تحمل
فيروسات معدية، لم يكن يعرف عنها أهل هذا الزمان شيئا. الأمر الثاني وهو الدور
الذي لعبه أطباء عرب ومسلمون فيما يعرف بوضع النظرية العامة للعدوى والطب الوقائي،
من خلال التجربة والملاحظة والتوصيف والمشاهدة، والأخبار المتواترة في توصيف أعراض
الأمراض الوبائية، ووضع أطر المواجهة التي تتضمن الحجر الصحي والعزل للمصابين عن
الأصحاء، وإجراءات للوقاية من المرض، مثل منع استقبال أفراد أو سفن أو تجارة من
بلاد ينتشر فيها وباء ما، وهي أساليب توصل إليها الأطباء العرب، مثل أبو بكر
الرازي وابن سينا والخطيب وأبو قاسم الزهري، من خلال المنهج التجريبي الذي تناقض
تماما مع المنهج الطبي الذي كان سائدا في أوروبا في العصور الوسطى، والذي يعرف
بالمنهج الجالينوسي، وكان يعتمد على تفسير الأوبئة باعتبارها نتيجة هواء فاسد، أو
حركة النجوم، أو الأبخرة العفنة «المياسما».
وكان من نتيجة انتشار المنهج التجريبي ذي
الأصول العربية الإسلامية، أن طبقت مدن إيطالية كجنوا، 1499 و1501، إجراءات العزل
الجماعي لمواجهة مرض الطاعون، وكذلك طبقت فلورنسا وميلانو في 1374 و1450 إجراءات
العزل، ومنع استقبال سفن التجارة لحماية سكانها، والتخلص بالحرق من ملابس المرضى،
ودفن الموتى منهم في أماكن بعيدة عن المناطق السكنية، ووضع قواعد وإجراءات وقاية
للطواقم الطبية. كما طبقت أيضا إجراءات العزل الجماعي للمناطق التي أصيبت بالطاعون.
ما حدث في التاريخ القديم يحدث أمام أعيننا
الآن، ففي الصين كما في كوريا الجنوبية يتم عزل مدن بأكملها منعا لانتشار العدوى
إلى مناطق أخرى، كما يتم التخلص من متعلقات المرضى المتوفين، جنبا إلى جنب مع
إجراءات الحجز الطبي المنزلي لمدد معينة أو مفتوحة، وفقا للقدرة على تقييد
الانتشار أو التوصل إلى علاج فعال للمرض. كما لجأت دول عديدة إلى تعليق السفر من
وإلى الصين أو بلدان أخرى امتد إليها المرض، مثل وقف الرحلات بين الكويت وقم في
إيران، وقرار الرياض تعليق سفر المقيمين إلى إيران.
مثل هذه الإجراءات مشروعة تماما، ولها سند قوي
في مسؤولية الدولة عن حماية مواطنيها، أيا كانت قسوة الإجراءات المتخذة، إلى أن
يتوصل العلم إلى علاج المرض والسيطرة على تمدده.
والواضح أن الأمر سوف يأخذ
بعض الوقت، وقد يصل إلى ما يقرب من عام، فالتوصل إلى علاج فعال لفيروس وبائي يواجه
البشرية يتطلب تجارب سريرية على مجموعات بشرية تختلف في العمر والجنس والمناطق
الجغرافية المختلفة، وتلك بدورها تتطلب إمكانات علمية وتمويلات ضخمة، وتنسيقا بين
أكبر مراكز البحوث الطبية المتخصصة في الأمراض الوبائية المعدية، وحتى اللحظة لا
توجد مؤشرات رئيسية تصب في هذا السياق، ما يجعل الأزمة مرشحة للاستمرار لفترة قد
لا تقل عن نصف عام.
تمدد فيروس «كورونا» سوف يصاحبه نتائج
اقتصادية كبرى على مسار العولمة الراهن، فحركة السياحة العالمية مرشحة للانكماش
بنسبة لن تقل عن 8 إلى 12 في المئة، ومرشحة للزيادة إذا طالت الأزمة أكثر من ستة
أشهر. ويعود التأثير الهبوطي إلى احتمال خروج حركة السياحة والسفر الصينية إلى
مقاصد السياحة العالمية المختلفة، والتي وصلت إلى 277 مليار دولار عام 2018 من
إجمالي إنفاق عالمي 1.7 تريليون دولار، بنسبة 16 في المئة. وهي نسبة كبيرة بكل
المقاييس، ناهيك عن انخفاض نسبة السياحة الداخلية الصينية إلى أكثر من 50 في المئة
حتى اللحظة.
يمتد الأمر إلى الدور الذي تلعبه الصين في
مجال استيراد النفط، والطلب العالمي مرشح للانخفاض، وبالتالي انخفاض الأسعار نتيجة
قلة الطلب الصيني، وما يصاحبه من قلة الطلب العالمي الذي سوف يتأثر بانخفاض
التصنيع المعتمد على قطع غيار مصنعة في الصين، وهكذا سوف تتأثر الاقتصادات
المعتمدة على تصدير النفط، كما ستتأثر الاقتصادات المتداخلة بشدة مع الاقتصاد
الصيني، صناعة أو تجارة، كالاقتصاد الروسي الذي بدأ يعاني بالفعل، في صورة انخفاض
متوقع للنمو في حدود نصف إلى واحد في المئة.
ما يحدث في العلاقات الاقتصادية بين الصين
وعدد من دول العالم، يدفع إلى مراجعة بعض السلوكيات والأفكار التي سادت في العقدين
الماضيين، مثل أن الصين هي مصنع العالم الذي يمكنه أن يقدم منتجا رخيصا في كل الأوقات،
يُعتمد عليه لخفض التكلفة في الصناعات المتوطنة في بلدانها الأم، وأيضا مقولة إن
الصين حلقة أساسية لا غنى عنها في حلقات التوريد العالمية للسلع وقطع الغيار.
والتفكير الآن ينحو إلى ضرورة الاعتماد على أكثر من مصدر، وليس فقط المصدر الصيني.
هذا الأمر من شأنه أن يؤثر على النمو الصيني، وأيضا يدفع إلى عودة الصناعات الكبرى
كالسيارات والإلكترونيات والهواتف النقالة إلى الاعتماد على نفسها أكثر في بلدانها
الأم، ما سيؤثر سلبا على تمدد العولمة وتشابك الاقتصادات.
(الشرق الأوسط)