منذ عدة أيام تصاعدت وتطورت حدة الأحداث في سوريا وتوغلت القوات التركية في سوريا، ولكن حدثت تطورات أخرى من خلال دعم القوات الروسية لجيش النظام السوري من أجل السيطرة على إدلب والطرق الرئيسية السريعة التي تصل بين دمشق وشمال سوريا. ولتحقيق هذه السيطرة تم قتل وإصابة عدد من الجنود الأتراك الذين تمركزوا في عدد من نقاط المراقبة داخل الحدود السورية. وأهمية هذه الطرق كما ذكرت أنها التي توصل بين العاصمة السورية دمشق وبين حلب وحمص والحسكة وباقي الشمال السوري. وكرد فعل تركي تجاه قتل الجنود قام الرئيس التركي بتصعيد لغة الخطاب، وخصوصا بعد عدم التوصل لحل للخلاف من خلال الاجتماع مع الروس على يومين متصلين، حتى أن وزير الخارجية التركي أشار إلى أن عدم التوصل لاتفاق مع الوفد الروسي قد يؤدي إلى اجتماع على مستوى أعلى، ويقصد به لقاء
أردوغان وبوتين، ولكن لم يحدث إلا اتصال هاتفي بين الاثنين لم يسفر عن شيء.
وتم تبادل اللوم بين موقعي وشركاء اتفاق سوتشى بأن كل طرف هو المسؤول عن عدم تنفيذ الاتفاق، فالروس يلومون
تركيا بعدم سيطرتها على قوات المعارضة السورية، وأن هذه القوات تحركت في مناطق من المفترض أن تكون خاضعة للنظام السوري. وفي نفس الوقت وجهت تركيا اللوم للروس في مساعدتهم لقوات النظام السوري ودعمها جويا في الغارات التي تشنها على مدن الشمال السوري في أدلب وحلب وغيرها، وبالتالي على القوات التركية في نقاط المراقبة والتي أسفرت عن قتل عدد من الجنود الأتراك. ومع اشتعال الأحداث نجد الإيرانيين يحاولون توظيف الحدث لصالحهم ويعرضون على الأتراك التدخل للتوسط بين النظام السوري وتركيا. ولم تعر تركيا هذه المبادرة أي اهتمام فكرتها إيران على لسان وزير خارجيتها، فتم تجاهلها من جانب تركيا أيضا. والموقف يزداد صعوبة، ويصدر تهديدا عالي النبرة من جانب الرئيس التركي تجاه القوات السورية وأن
طائراتها لن تستطيع التحليق بحرية، وهو يعلم أن طائرات الحماية ما هي إلا طائرات روسية وليست سورية. فهل التهديد يشمل القوات الروسية أيضا؟ كما أنه كان قد تسرب أيضا من عدد من العسكريين الأتراك أن القوات الروسية ساعدت في عمليات قتل وإصابة الجنود الأتراك.
وهذه التطورات المتسارعة واستدراج النموذج التركي إلى عدد من القضايا في المنطقة، مثل القضية الليبية وترسيم الحدود البحرية بالإضافة إلى قضيتها الأزلية مع الاتحاد الأوروبي، يدفعنا إلى التفكير في موقف النموذج التركي ومآلاته المستقبلية في ظل الأبعاد المحيطة به. وهذا يدفعنا إلى استعادة بدايات هذا النموذج لأن ذلك سوف يساعد في فهم التطور التاريخي للنموذج وإلى أين؟ فحزب
العدالة والتنمية تم تأسيسه عام 2001 من خلال عدد من المنشقين عن حزب الفضيلة الذي كان يرأسه الأستاذ نجم الدين أربكان رحمه الله، والذي كان يمثل الأب الروحي لشباب الحركة الإسلامية في تركيا مع الصحوة الإسلامية في منتصف السبعينيات. وأهم الشخصيات التي انشقت عن حزب الفضيلة كان عبد الله غل، رئيس الجمهورية السابق، ورجب طيب أردوغان، الرئيس الحالي، وغيرهما، واستطاع حزب العدالة والتنمية أن يحقق انتصارا في انتخابات عام 2002 ويشكل الحكومة.
قدم الحزب نفسه كحزب علماني يسعى لأن يحقق التقدم لتركيا من خلال تبنيه الأفكار الليبرالية والرأسمالية الغربية، وقد صرح رئيس الحزب طيب أوردغان عام 2008 بأن حزبه الحاكم سيواصل السير على طريق حماية القيم الجمهورية ومن بينها العلمانية، مع العلم أن كل أو معظم مؤسسيه كانوا من أبناء التيار الإسلامي. وكانت هناك الكثير من الأخبار التي تتداول في المنتديات السياسية بأنه تم دعم الحزب في الانتخابات التي شارك فيها في بداياته من جانب فتح الله غولن وجماعة الخدمة. وبعض الدراسات أشارت الى أن عدم تدخل الجيش التركي ضد حزب العدالة والتنمية، كما حدث مع الرفاه عندما حقق نجاحا كبيرا في انتخابات البلديات والانتخابات التشريعية في منتصف التسعينيات، يعود إلى دعم تلك الجماعة لحزب العدالة والتنمية في ذلك الوقت. بل يمكن القول أيضا إن جماعة الخدمة هي من دعم هذه المجموعة لانشقاقها عن حزب الرفاه، لما كان بين فتح الله غولن والأستاذ أربكان من خلافات. ولا ينكر أحد أن الحزب في حكومته الأولى والثانية استطاع أن يقدم الكثير من النجاحات الاقتصادية على المستوى الداخلي، كما أنه قدم تركيا بشكل نموذجي للمنطقة والإقليم، وفتح علاقات مع الاتحاد الأوروبي ومختلف دول العالم، وأصبحت تركيا إحدى الدول العشرين على المستوى الدولي.
مع الحكومة الثالثة للحزب 2011، بدأت الخلافات مع جماعة الخدمة، أيضا بدأت تظهر بعض قضايا الفساد واستغلال السلطة. وبدأت تظهر أنواع متعددة من الصراعات بين الطرفين في الكثير من مجالات العمل، سواء على مستوى الجيش والمخابرات أو مستوى القضاء وسلطات التحقيق وغيرها من مجالات العمل العام. وفي عام 2014 تحول أردوغان من رئيس للحكومة إلى رئيس للجمهورية التركية، وتم اختيار أحمد داود أوغلو رئيسا للحكومة، ثم تم تغيير الدستور لتتحول تركيا من نظام برلماني إلى دولة ذات نظام رئاسي. خلال تلك الفترة اتضحت الصورة بشأن توجه الحزب، وأعلنها داود أوغلو في أحد لقاءاته بأنهم "العثمانيون الجدد".
وفشلت محاولات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وخلال تلك الفترة ظهر الخلاف بين النظام التركي وجماعة الخدمة إلى السطح، وكانت محاولة الانقلاب في تموز/ يوليو عام 2016، ولكن وقف الشعب التركي مع حكومته المنتخبة، وتم إسقاط الانقلاب الذي كان ينتظره الغرب لإنهاء النموذج التركي.
بعد فشل محاولة الانقلاب تحول النموذج لما يشبه حكم الفرد، وابتعد الكثير من أصدقاء وزملاء الأمس، بل ويسعى البعض لتشكيل أحزاب منافسة. ونجح أردوغان في انتخابات 2018 الرئاسية، والمفترض أنها الدورة الثانية والأخيرة، إلا إذا تم تغيير الدستور مرة أخري.
والمراقب للأحداث فيما يدور في الإقليم يجد أن تركيا تقوم بأدوار متعددة، فهل هذا نوع من أنواع الاستدراج كما ذكرت، وخصوصا بعد الموقف الروسي في ليبيا وسوريا؟ وهنا تتدخل الإدارة الأمريكية وتعلن دعمها لتركيا في مواجهة الموقف الروسي!! وبالتأكيد يدرك الأتراك ما تصبو إليه التحركات والتصريحات الأمريكية، فهي تهدف من ذلك إلى إيقاف التعاون التركي الروسي بشأن صفقات تصنيع السلاح وبالأخص صفقة "اس 400". وقد يكون من أجل إشغالها لتبتعد عما يحاك الآن بخصوص قضية الأمة وما يخطط بشأنها. ومع أن هناك تصريحات من المسؤولين الأتراك بطلب الدعم من حلف الناتو (الذي تعتبر تركيا أحد أعضائه الأساسيين) إضافة إلى الدول الأوروبية التي اتفقت مع تركيا لاستقبال السوريين اللاجئين للحد من رحلات الهجرة غير الشرعية للسوريين إلى أوروبا، مع ذلك ما تزال تركيا تنتظر ردا وهي تعلم أن الرد لن يأتي.
في الختام، يمكن القول بأنه بالتأكيد قدم النموذج التركي مواقف عديدة على كافة المستويات لا ينكرها أحد وافتقدناها لعهود طويلة، لذلك نأمل أن يدرك القائمون على النموذج الحجم الحقيقي لما يحاك ضدهم، وأن يعملوا ويستطيعوا تلافي وتجاوز ما يخطط لهم للقضاء على النموذج. كما أننا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يستمر النموذج حتى مع اختلاف الأشخاص.
والله المستعان وهو من وراء القصد وهو يهدي السبيل.