توقفنا في مقالنا السابق
(1) عند تهميش
الكتاب الفكري بشكل شبه كامل في أكبر داري نشر في
مصر، انسياقا وراء موجة الرواية. وهي الموجة التي لم تصطنعها الدور الكبيرة، ولا الدولة، ولا حتى الغياب الموهوم للكتاب الإسلامي؛ وإنما اصطنعتها دور صغيرة، تمتَّعت بتمويل أوروبي سخي؛ وركب الجميع موجتها طمعا بالربح الوفير.
وقد بلغ ابتذال "موجة الرواية"مداه مع ظهور "موضة" المدوَّنات، قبيل شبكات التواصل مباشرة؛ إذ ظهرت دور "شبابيَّة" تُحول النصوص المنشورة على المدوَّنات الشهيرة إلى كُتب من "الأفضل مبيعا"، وقد ركبت دار الشروق الموجة مرَّة أخرى؛ حتى أخرجت بعض هذه المدونات في مسلسل تلفزيوني شهير، بل واستبدَلت الشروق مدير نشرها المخضرَم بصبيَّةٍ من المدوِّنات، لا خبرة لها بعالم الكتب والنشر!
وقد كانت الدور الشبابيَّة التي تنشر للمدونين، المشهورين في الفضاء الافتراضي؛ هي أول تحول جذري حقيقي في عالم
النشر. وبعد أن كانت مهمة الناشر اكتشاف الأدباء والكتاب والمفكرين (كما فعل السحار مع نجيب محفوظ مثلا)، وإلقاء الضوء على المواهب الحقيقيَّة والعقول النيرة؛ راح هؤلاء الشباب يتلقفون مشاهير المدونين (بقطع النظر عن محتوى ما ينشرون)، ثم مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي؛ مُستغلين كثرة مُتابعيهم، ومترجمين ذلك إلى أرقام مبيعات خُرافيَّة لطبعات عديدة لـ"كتب" لا قيمة لها ولا أهمية، في الغالب الأعم؛ زَبَد خطَّهُ بعض الأدعياء الجهال، وراج بسبب كثرة التبع، وتعبيره عن جيل تم تسطيحه وتجويفه؛ لا بسبب أي قيمة حقيقيَّة ذاتية قد تطويها جمهرة تلك الأعمال، ناهيك عن أن يكون هذا سببه غياب الإخوان وكتبهم عن الساحة! فقد بدأت هذه الموجة أصلا في وقت تمتعوا فيه بحريَّة العمل الكاملة، وإن قُيِّدَت حركة دور نشرهم بعض الشيء. وقد أسهم في علو مدّ هذه الموجة هزليَّة الحركة النقديَّة في مصر، وتهافُتها؛ إضافة إلى تدهور التعليم والثقافة تدهورا شبه كامل خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وقد أدى ظهور هذا الجيل من ناشري نصوص الفضاء الافتراضي إلى إعادة تشكيل الساحة الثقافيَّة من جديد؛ فتم تهميش بقايا الشلل النقديَّة بالكامل (سواء شلل العلمانيين المتسلِّطة، الموالية للدولة؛ أو شلل الإسلاميين التي تعمل على هامش الدولة، وفي حجرها!)، وذلك لحساب تآزُر مشاهير الكتاب بعضهم مع بعض في هذا الفضاء الافتراضي. أي إن الشلل القديمة قد استُبدِلَت بشلل جديدة؛ "شلل افتراضيَّة" إن جازت التسمية! شلل من الكتاب لا نُقاد فيهم ولا بينهم.
ومع تنامي قوة هؤلاء الناشرين الشباب، بسبب الأرباح التي يحققونها من حجم المبيعات المذهِل؛ تراجعت دور النشر الحكوميَّة إلى حجمها الطبيعي في الحياة الثقافية، بل وتراجعت كل الدور الكبرى الخاصة المرتبطة بالدولة أمام الدور الجديدة، حتى صار موقعها من هؤلاء الشباب هو موقع المتلقي المقلِّد ليس إلا؛ لتنتقل قيادة سوق الكتاب والحركة الثقافيَّة، من ثم إلى دور نشر الفضاء الاجتماعي، التي اتخذت التعبير عن جيل الشباب شعارا، في حين أن شعارها "الحقيقي"كان وما زال هو تعظيم الربح بأيَّة وسيلة، ولو كان بهذا الكم المذهل من الغُثاء الذي تتداوله أجيال كاملة بغير رقيب إلا ضمير الناشر الفضفاض!
ومرة أخرى، فإن الفارِق بين ابتذال هذه الموجة، وابتذال ما كانت تنشره الدولة وأذنابها؛ هو فارق في الكم وليس في النوع. بمعنى أنه في حين كان الابتذال الدولي مقصورا على "مثقفي الحظيرة"، ومن لف لفهم من أصحاب الحظوة؛ فإن الابتذال الجديد صار سوقا "حُرَّة"مفتوحة بوسع أي شخص الإدلاء بدلوه فيها، إن امتلك عددا كافيا من المتابعين على شبكات التواصل الاجتماعي، أو امتلك ما يدفعه لدار نشر حتى تطبع له كتابه "اللوذعي"؛ أو حيزا له معا! ولهذا السبب، غَضِبَت شلل العلمانيين والإسلاميين من الدولة، وما زالت غاضبة؛ فهما معا كانا جزءا من لعبتها الثقافيَّة (مركزا وهامشا)، فصارا الآن (وقبلهما الدولة نفسها) في أقصى الهامش المنسي المطمور تحت ركام هائل! وهو ما يُبرر التصريحات الغاضبة للهامشيين المجهولين، من هؤلاء وأولئك؛ ضد معرض الكتاب، الذي لم يعد لهم مكان فيه؛ بعد أن أزاحتهم أجيال جديدة من الكتاب، وتأففت منهم ومن نتاجهم أجيال جديدة من الناشرين!
وعلى عكس ما يهرف به البعض، فقد كان لمصادرة الدور الإخوانيَّة، جنبا إلى جنب مع نكول الدور الكبرى عن دورها؛ دورا مهما في ظهور دور "إسلاميَّة" مستقِلة أرحب آفاقا وأنضج رؤية. دور بدأت عملها في مساحة جد شاسعة؛ مساحة تتقاطع فيها الدور الإخوانيَّة الصرفة، مع الدور الكبرى التي تدور في فلك الدولة، مع دور نشر التراث الإسلامي، إضافة إلى قبس من الدور "الإسلاميَّة" المصريَّة شبه المستقلة؛ أمثال: الزهراء للإعلام العربي والمختار الإسلامي ومكتبة وهبة، بل وحتى دار السلام في نسختها القديمة. لكن كان الكتاب "الإسلامي" الجديد الذي تَعرِضه هذه الدور كتابا مُختلفا، إلى حدٍّ ما؛ إذ لا تُقيده أوهام أيديولوجية ولا تحدده انتماءات تنظيمية، بل يُمليه وعي جيل جديد بمتطلباته. ومن ثم، فهو كتاب "إسلامي" بمعنى انتمائه إلى حقل "الدراسات الإسلاميَّة" الأكاديمي العام، لا بمعنى تعبيره عن حركة أو تيار سياسي بعينه، إضافة إلى عناية هذه الدور بالأدب الذي لا يُصادِم الإسلام. وقد استعادت هذه الدور للكتاب "الإسلامي" مكانته، وأعادت الثقة فيه؛ رغم انتكاسها عقب انقلاب 2013م لفترة غير قصيرة، وتعثُّر أكثرها إلى اليوم.
لم يكن صعود الرواية وتنامي مبيعاتها نتيجة لغياب "الكتاب الإسلامي" المؤدلج، للإخوان وأشباههم؛ فهذا الكتاب أصلا لم يكن هو الأعلى مبيعا إلا في صفوف أصحابه وداخل تنظيماتهم الضيقة. أما الكتاب الإسلامي الأعلى مبيعا بإطلاق في مصر، خصوصا خلال العقدين الأخيرين؛ فهو ما يُمكن تسميته مجازا بـ"الكتاب السلفي"! وهو كتاب لم يتأثر كثيرا بكل التغييرات التي بسطناها في سلسلة مقالاتنا هذه.
وسنُجمل في المقال التالي ما بقي من تفاصيل مشهد صناعة نشر الكتاب (والمشهد الثقافي) في مصر، محاولين فتح كوة تسمح لنا باستشراف مستقبل هذه الصناعة، بل ومستقبل الثقافة في مصر!
__________
(1) راجع مقالنا المعنون: "تحولات سوق النشر في مصر".