قضايا وآراء

ما لا يأتي بالقوة.. يأتي بالتفاهة!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
بين جلجلات الصخب والضجيج الذي يتصايح مع ما أعلنه ترامب ونتنياهو في 28 كانون الثاني/ يناير، تذكرت مقطع ختم به الأديب الجميل "ميلان كونديرا" رواية من أجمل رواياته "حفلة التفاهة" فيقول: "التفاهة يا صديقي هي سيدة المشهد.. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه، في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب.. التفاهة يجب أن نحبها وأن نتعلم حبها..".

بالفعل كان مشهد الثلاثاء (28 كانون الثاني/ يناير) مليئا بـ"التفاهة" الكاملة، تفاهة أن تكون قضية تحرر وطني عمرها يزيد عن مئة عام قامت من أجلها الحروب وأريقت في سبيلها الدماء واستشهد من أجلها الآلاف تسمى بـ"صفقة".. تفاهة أن يكون من خطط ودبّر لها شخص بغطرسة وضآلة كوشنر "زوج ابنته!".

تفاهة أن يكون من يلهث وراءها شخص متهم بجرائم شرف ويجري وراءها هربا من سيف العدالة والمحاكمة، لا حرصا على المصالح القومية العليا لبلاده التي يحذر فيها الساسة المخضرمون من خطورة أن لا يكون هناك شريك فلسطيني للتفاوض.. تفاهة أن يكون الراعي لها شخصا بأخلاق وثقافة وقيمة ترامب الذي تم تمزيق خطابه عن حالة الاتحاد أمام الكرة الأرضية.. تفاهة أن يقال عن تلك الصفقة أنها "آخر فرصة للفلسطينيين"، في تعبير خائب عن جهل عميق بالتاريخ وما فعلته الشعوب في سبيل تحررها واستعادة أوطانها.. بالفعل التفاهة حاضرة في أسوأ المصائب كما قال عمنا كونديرا.

* * *

المعاناة الشخصية التي تكون وراء القرارات الهامة شأن قديم لدى ساسة إسرائيل فيما يبدو.. فليس نتنياهو فقط.. إذ يحكي لنا "موشيه يعلون" رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق (2002–2005 م) في كتابه "طريق طويلة قصيرة"، أن شارون اتخذ قرار الانسحاب من غزة للهروب من "تهم جنائية" شبه محققة، وفي سبيل ذلك أقدم على اتخاذ قرارات ذات صبغة استراتيجية تقرر مصير الدولة برمتها. ويضيف: الموقف السياسي والداخلي لـشارون ساهم إلى حد بعيد في اتخاذ هذا الموقف التاريخي، لا سيما في ظل التحقيقات التي كانت جارية معه حول قضايا الفساد، الأمر الذي دفعه لإعلان الخطة رسميا لأول مرة في مؤتمر هرتسيليا الخامس (2005م) دون الرجوع إلى الجهات الرسمية ذات الاختصاص على الأقل في الجانبين الأمني والعسكري.

ويستطرد: اللحظة التي قرر فيها شارون الانسحاب من غزة، لم يكن شارون الذي عرفناه طوال العقود الماضية، للدرجة التي شعرت فيها أنه يسير بخطى حثيثة لتنفيذ الخطة، لكنه في قرارة نفسه من الداخل غير مقتنع بها بصورة مطلقة وكاملة. منذ أوائل عام 2004 م بدأ شارون ينتهج بعض السلوكيات الغريبة بعض الشيء، فقد اعتدنا عليه سياسيا صارما متنبها مراعيا أدق السلوكيات، إلا أن عددا من العادات الجديدة بدأت تطغى على شخصيته مثل "نومه المتقطع" خلال الاجتماعات الرسمية، وحصول بعض الأعراض المرضية عليه وغياب الشخصية الكاريزمية عنه في الحوار مع محدثيه. ثم يسأل سؤالا خطيرا: هل أن المقربين منه استغلوا هذه الأعراض وانتزعوا منه قرار الانسحاب من غزة؟

ويشير يعلون أيضا إلى سلوكيات إدارية غير مقبولة أقدم عليها شارون انطلاقا من كونه رئيسا للحكومة، من خلال استدعائه لعدد من الضباط الكبار في الجيش ومحاولة استمالتهم لرأيه الداعي إلى الانسحاب من غزة، دون الرجوع إلى مرجعياتهم العسكرية في رئاسة الأركان.

ويشن "يعلون" هجوما على عدد من الساسة الذين ساهموا في السنوات الأخيرة في اتخاذ قرارات خطيرة تخص أمن إسرائيل، لا سيما تلك المتعلقة ببعض الانسحابات من مدن الضفة الغربية وإزالة عدد من الحواجز العسكرية. ويقرر أن هؤلاء الساسة، أو بعضهم على الأقل، اتخذوا هذه القرارات بناء على حسابات "شخصية بحتة".

* * *

ويكشف يعلون أيضا عن نقطه مهمة تتعلق بالتداخل بين السياسي والعسكري في إسرائيل، وكيفية التأثير ببعضهما البعض خاصة عند القرارات الهامة التي تتعلق بالدولة كالسلم والحرب. فيذكر أنه قال لشارون ذات مرة إنه لن يحول جيش الدفاع الإسرائيلي إلى شركة للقطاع الخاص ضمن شركات شارون وأبنائه. و ترتب على ذلك صدام بينهما أسفر عن عدم التجديد لـه رئيسا لهيئة أركان الجيش كما جرت العادة في إسرائيل.

ويؤكد يعلون الذي نشر كتابه عام 2008م على أهمية استخدام القوة، ويقول إن نظريته الدائمة هي أن "ما لا يأتي بالقوة، يأتي بمزيد من القوة"!

ويقول كلاما مهما يتصل بالصفقة الأخيرة: إن حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إقامة دولة فلسطينية ذات قدرات اقتصادية متواضعة، ومقسمة جغرافيا وغير مترابطة، سيحولها في نهاية الأمر إلى دولة عدوانية لأنها لن ترضي طموحات الفلسطينيين، وهو خير وصفة لقيام "حروب جديدة" في المنطقة. (تذكروا حفلة التفاهة)!!

بقي أن نعرف أن موشيه يعلون (70 عاما) حاصل على بكالوريوس علوم سياسية والتحق بالجيش عام 1968، وبعد عشرين عاما من هذا التاريخ، قاد ونفذ وأطلق رصاصة التأكد من القتل في أشهر عملية اغتيال لأشرف وأخلص قائد في منظمة التحرير الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس. وهو يرى كدارس للعلوم السياسية أن النزاع في هذه المنطقة جزء من "حرب ثقافات" تدور في الشرق الأوسط بين الثقافة الغربية التي تقدس الحياة، وبين الإسلام الجهادي الذي يقدس الموت. ويقول: العداوة الأساسية ضد إسرائيل تكمن في النظرة إليها على أنها تمثل الغرب في المنطقة (أي الشرق الإسلامي).

وهذا هو السياق الذي يجب أن نرى من خلاله النزاعات في المنطقة، ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن مقولة "السلام مقابل الأرض" هي بعيدة كل البعد عن واقع المنطقة، وعلينا أن نتغلب على التهديد الإسلامي الجهادي كي ننتصر في حرب الحضارات هذه.. (انتهى كلام يعلون).

وهذا هو جوهر الموضوع وعمقه العميق.. إسرائيل "دولة وظيفيه" تمثل الحضارة الغربية فى الشرق العربي وهذه الحضارة تعتبر الحضارة الإسلامية عدوها اللدود؛ لأنها تمتلك مشروعا كاملا لعمران الأرض وصلاح الإنسان، والباقي تفاصيل.

ووصلاً بما يحدث ويجري، سيكون مهما أن نعرف وصف "يعلون" للمجتمع الاسرائيلي، الذي يصفه بأنه "ثري وهش". ولنضع ألف خط تحت كلمة "هش".. لنعرف أن نهاية إسرائيل على الأبواب.. وأننا أمام عدو متوهم.
التعليقات (0)