هل كان البرادعي مثلاً هو أيقونة
الثورة؟ وهل كانت
صفحة "خالد سعيد" هي من وجهت الدعوة لثورة يناير؟ وهل من شاركوا في الثورة تحركوا بدافع الانتقام لوفاة الشاب السكندري على يد رجال الشرطة؟!
كانت مشكلة ثورة يناير، أنها ثورة تقليد، سعت لمحاكاة الثورة التونسية في كل شيء، وما دام مقتل الشاب محمد بوعزيزي كان سببا في تفجر الثورة التونسية، فلا بد أن يكون مقتل خالد سعيد سبباً في تفجر الثورة
المصرية، حتى وإن كان مقتله قبل عدة شهور من قيام الثورة، مع أنها لم تهب عقب مقتله مباشرة، ومع أن مقتل الشاب السكندري أيضاً سيد بلال من التعذيب على يد جهاز أمن الدولة، من أجل حمله على الاعتراف بتفجير كنيسة القديسين، هو الأوقع لأنه قبيل اندلاعها، لكن الأخير كان سلفياً، بما سيعطي للثورة بعداً لا يريده الذين ركبوها، بتشكيل ما أطلقت عليه "ائتلافات الوجاهة الاجتماعية"!
الشعب يريد:
لقد بلغ التقليد مداه، عندما حاول أحد أبناء مدينة بور سعيد محاكاة الحالة التونسية، فأشعل النيران في نفسه أمام البرلمان المصري، وقد نجحوا في إنقاذه من مصير بوعزيزي. فقد كان الاعتقاد السائد أن الثورة يمكن أن تتكرر في مصر، بأن تكون "كوبي بيست" من الثورة التونسية في بداياتها. ورغم أن الحراك الثوري المصري أقدم من نظيره التونسي، والمصريون أساتذة في فن
تأليف الهتافات حتى تبدو شعرا، فإنه في اليوم الأول للثورة المصرية استدعى الثوار هتاف ثورة الياسمين: "الشعب يريد إسقاط النظام"، والذي بدا لي في البداية ركيكاً، وفي تراثنا الثوري ما يغني عنه!
وفي كل مرة أكتب أن هذا شعار الثورة المصرية منذ اليوم الأول، فإن هناك من يعلقون بأنه شعار يوم جمعة الغضب، فقد كانت المظاهرات في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 تدعو إلى إصلاحات في بنية الحكم. ودائماً أذكر بعنوان مقالي الذي كتبه يوم الخميس 27 كانون الثاني/ يناير ونشر في جريدة "القدس العربي" يوم السبت 29 كانون الثاني/ يناير، تعليقا على اليوم الأول للثورة، وكان عنوانه: "عندما هتف المصريون: الشعب يريد إسقاط النظام". ولا يقول أحد إني قد كتبته في يوم الجمعة بعد اندلاع الثورة عقب الصلاة، ليس لأني كنت مشاركاً فيها، ولكن لأنه يوم شهد انقطاع الإنترنت، بما يتعذر معه إرسال المقال إلى "القدس العربي" في لندن!
والحقيقة أن مصر كانت حبلى بالثورة منذ سنة 2004، عندما علت نغمة التوريث، وتزامنت مع موجة من الغلاء ضربت البلاد، وبدا واضحاً أن السلطة لا تريد أن تدفع مهر هذا الوريث، الذي كان بالشكل والرسم ثقيلا على قلوب الناس، فلم يألفهم ولم يألفوه، وبدا أنه يريد تخليق شعب وفق مقاييسه الخاصة، فلم يكن من بين مجموعته من يألف أو يُؤلف. وقد عبر المصريون عن رغبتهم في التغيير ففاز للإخوان 88 نائباً، في انتخابات سنة 2005. وأعلن رئيس الحكومة أنه لولا التزوير لنجح لهم 44 نائباً آخرين، فلم تكن المعارضة الرسمية جاهزة مع هذه الرغبة الجماهيرية، فكان الإخوان هم بديل الناس!
معجزة الحشد:
وفي انتخابات 2010، وعندما سد النظام أبواب التغيير عبر صناديق الانتخاب، استقر الرأي على أنه لا أمل في تغيير النظام من الداخل، أو في وجود فرصة للإصلاح وفق المنظومة القانونية، فاستبد اليأس بالناس، لأنهم أدركوا أنه لا خيار إلا بالثورة، لكن أين الطريق، في ظل حالة البطش الأمني، والتنكيل بالمعارضين، حيث كان وزير الداخلية حبيب العادلي هو أقوى رجل في مصر؟ لا تحدثني عن المشير طنطاوي ومن معه، فلم يكن أحد يحسب لهم حسابا أصلاً!
وهنا تأتي قيمة الثورة التونسية، التي أكدت أنه بالحضور الحاشد للناس يمكن أن يسقط النظام مهما كانت قوته. وقبل سنوات كان سعد الدين إبراهيم قد نقل عن الأمريكان قولهم له: احشد 100 ألف مصري في ميدان التحرير وسيسقط مبارك. كان يتحدث عن المئة ألف كما لو كان اجتماعهم يحتاج إلى معجزة.
وهنا كانت الدعوة إلى
25 يناير وثيقة الصلة بدعوات سابقة، بدأت وخفتت، وأفل نجم البرادعي، كما نجم القضاة. وهذا الزخم الذي شهدته مصر عقب عودة البرادعي من الخارج شهدت أضعافه مع انتفاضة القضاة، ولم يقل أحد إن القضاة هم أيقونة الثورة!
لقد بدا البرادعي ملولاً، وانفض أنصاره من حوله، وقرأنا كتابات لهم تؤكد على أن الرجل لا يصلح لشيء، وهو الذي كان لا يطيق البقاء في مصر لأكثر من أسبوع، حتى صارت دعوته بعدم السفر نشيداً يتردد في المظاهرات، ولم يستجب لها!
لقد قامت الثورة، والبرادعي "أيقونتها" خارج البلاد، وعاد قبل جمعة الغضب، ولم يكن هو القائد لخروج جماهيري كان في عدد من المحافظات، وحتى في القاهرة؛ من كثير من المساجد. وإذ صلى البرادعي الجمعة في مسجد الاستقامة بالجيزة، فبعد أن قصفت أجهزة الأمن المسجد بعد الصلاة بقنابل الغاز، وفقد قدرته على التنفس نقلوه إلى منزله، بينما استمرت الثورة، وإذ تمكنت من إسقاط الشرطة ودخول ميدان التحرير، فلم يشغل أحد نفسه بالبرادعي وما جرى له!
صفحة خالد سعيد:
فالحديث عن أيقونات الثورة هو أوهام، سواء كان البرادعي أو خالد سعيد، لكنها الدعاية التي بالإلحاح عليها جرى تصديقها، فـ"الزن على الآذان أمر من السحر"، تماما مثل الحديث عن أن صفحة خالد سعيد هي من صنعت الثورة، بعد أن دعت إليها، وهو ما تحول (بالإلحاح عليه) إلى مسلمات. وهناك موضوعات سريعة ارتبطت بظهور الإنترنت، تنسي بعضها بعضاً، وقد هالني عندما شاهدت فيلما وثائقياً، أعده للجزيرة مراسلها السابق بالقاهرة "سمير حسين"، عن "المدونين" وظاهرتهم في مصر، وكيف أنهم دعوا إلى مظاهرات في التحرير، وكانت الصور عن مظاهرة شاركت فيها، قبل ثورة يناير، وكان الدكتور يحيي القزاز هو الداعي إليها، وهو ليس مدونا ولا ينتسب للمدونين. وقد فوجئنا بعدم تصدي الأمن لنا، وهو ما اعتبرناه ورطة، لأنه لم يشارك فيها سوى عشرات، وظهر المشاركون أنهم قلة. وقال الناشط كمال خليل لي: انظر كيف ورطنا القزاز بالدعوة لمظاهرة بدون تنسيق، فليس من الطبيعي أن نتجاهل دعوته، فضلا عن أن الاستجابة له ساهمت في تعريتنا بهذا الشكل!
كان الهدف تمرير "الوثائقي"، ليؤكد على نفوذ المدونين وقدرتهم على الحشد، ولو بالافتعال والادعاء، تماشيا مع "موضة التدوين"، وكذلك جرى تضخيم صفحة خالد سعيد، والتعامل على أنها من فجرت الثورة ودعت لها، وصار كثيرون يرددون هذا الكلام بدون أي تفكير فيه، فلم يقف أحد ليسأل نفسه إن كان قد علم بأمر الثورة من هذه الصفحة، أو كانت مشاركته فيها استجابة إلى دعوة طالعها عبر الإنترنت!
وإذ كنت من الأوائل الذين تعاملوا على الإنترنت، وكتبوا مقالاتهم على الكمبيوتر، فلم أعلم بأمر هذه الثورة من خلاله، والتي كان التخطيط لها بنفس الشكل القديم، الذي تم التخطيط به لمظاهرات سابقة. وفي هذه المرة كان التنسيق بين الحركات السياسية على خروج المسيرات من مناطق مختلفة، وتمركزها في نقاط بعينها. وإذ خرجت المظاهرات الحاشدة من الأحياء الشعبية، فلم يكن الإنترنت منتشراً فيها، وكان معظم المصريين يعتمدون "الوصلة"، فيشترك أكثر من منزل أو شقة في خط واحد للإنترنت، بما يمثله هذا من بطء في السرعة!
لقد علمت بالدعوة من المخططين لها على الأرض، وليس عبر العالم الافتراضي. وفي يوم 26 يناير، وبينما كنت في مظاهرة على سلالم نقابة الصحفيين، صاح أحدهم بأن يوم الجمعة سيكون مختلفاً، ومن هنا بدأ التخطيط لخروج المظاهرات من المساجد، وتم تحديد المساجد التي ستخرج منها المظاهرات!
لقد صرنا بحاجة إلى استبيان لمن شاركوا في الثورة؛ تدور أسئلته عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في القيام بالثورة، وسوف نكتشف أن الهاتف الجوال برسائله والبريد الالكتروني والماسنجر، كان لهم دوراً أكثر أهمية، لكن هذا سينسف دراسات أكاديمية في كليات الإعلام وغيرها (تماشيا مع الموضة) عن أن الثورة كلها قامت تنسب لـ"
فيسبوك"، وهي الدراسات التي انطلقت ليس من فرضية الدور، ولكن باعتباره حقيقة مفروغا منها، ولم يكن هذا صحيحاً.
والمشكلة هنا أن هذه الدعاية، إذ لخصت الفضل في الثورة لموقع "فيسبوك" فقد اختزلته في صفحة "خالد سعيد"، بالشكل الذي أعطى أهمية لمن يقومون عليها بأنهم أصحاب الثورة، فلما تنكبوا الطريق، كان الهتاف "واثوراتاه"!
إنها أوهام جرى ترديدها على أنها حقائق وبديهيات مسلّم بها.