هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يواصل الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر ياسين قراءته لكتاب "كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية"، للباحث المصري يحيى حسن عمر.
موضوعية مجروحة
عن "هيكل والسلطة، ومقام الملك والرئاسة"، رأى عمر بأن من أكبر المؤثرات على موضوعية كتابات هيكل، والتي تجرفها نحو الذاتية، هي علاقته بالسلطة، النابعة من تفاعله، كمثقف، وصحفي، وصاحب طموح. لقد عاصر هيكل ثمانية عهود، بدا مؤيدًا فيها جميعًا، دون استثناء، وانتهى مؤيدًا في خمسة منها، وهي: العهد الملكي، وعهد الرئيس نجيب، وعهد الرئيس عبد الناصر، وعهد المجلس العسكري (2011 ـ 2012)، وعهد 3 تموز (يوليو) 2013 ـ 2016، حتى وفاة هيكل وانتهى معارضًا لثلاثة من هذه العهود: السادات، ومبارك، ومرسي. وكانت لغته، دومًا، تحافظ على شعرة معاوية مع النظام القائم .
عندما بدأ هيكل تدريبه في "الإجبشيان غازيت"، باعتباره مساعد مخبر صحفي، في قسم الحوداث، كان أول موضوع أُسند إليه عن البغاء، وذلك حين أصدر وزير الشؤون الاجتماعية، في ذلك الوقت، قراره القاضي بإلغاء البغاء، لتفشي الأمراض السرية. تكلف هيكل بزيارة حي البغاء، واستقصاء رأيهن في ذلك. يروي هيكل هذا التحقيق الأول، في عدة مواضع، وكيف أنه وجد عنتًا كبيرًا، وحرجًا بالغًا، وفشلًا ذريعًا، يومًا وراء يوم؛ حتى كاد ييأس؛ فأبصرته معلمة الحي؛ وقررت مساعدته، وأرسلت بمن مرَّ على الفتيات المعنيات، وحصل على المعلومات المطلوبة منهن. وهكذا، حصل هيكل على ما يريد، ما جعله يستنتج بأن "كثيرًا من الخطوات، والعثرات، يمكن اختصارها، إذا كان إلى جوار المسؤول، ويحظى بدعمه". (ص 153-154).
"... ليس بإمكان أحد أن يصوِّر كم يحبك هذا الشباب، ويؤمن بك، وبرسالتك. فقد آمن الشباب بك، لأنك تؤمن به، وبرسالتك في سبيل المجد الجديد. هكذا يكتب هيكل عن فاروق الأول، ملك مصر والسودان، صيف 1943، في أسبوعية "روزاليوسف " القاهرية.
في آخر السنة نفسها، يكتب هيكل: "... الحقيقة أن ما حدث كان أكبر، وأجلّ من أن تستطيع الكلمات وصفه" عن رحلة الملك نفسه إلى مدينة كفر الدوار! يوالي هيكل الكتابة على النسق نفسه، عن زيارة الملك فاروق إلى الصعيد، و عن عيد جلوس جلالته. ولما سقط فاروق، انهال قلم هيكل، ضمن أقلام أُخرى، على الملك المخلوع (ص155 ـ 157).
أما السادات، فما أن توفي، حتى هاجمه هيكل، بكل الشراسة، تحت تأثير مرارة اعتقال، لم يدم إلا أقل من ثلاثة أشهر!(ص157 ـ 158).
في أواسط حكم مبارك، كتب هيكل يهنئه على نجاته من محاولة لاغتياله، وبعد أن نُحي مبارك، قال هيكل: إن نظرة لحكم مبارك تؤكد على أنه مرحلة انتقالية، بعد أن كان يكتب، مخاطبًا الرئيس مبارك: "... دوركم في هذا البلد لا بديل له، ولا غنى عنه... و حفظكم الله لغدٍ، يملأه الخير، والحق، والعدل!".
على الرغم من أن هيكل كان من أوائل الذين تعرضوا لموضوع توريث مبارك لابنه جمال، فإنه تعرَّض للموضوع بطريقة متلطفة للغاية، في سياق النفي، دومًا، والثناء على الرئيس، لقيامه بحسم الأمر! وبعد تنحية مبارك، وصفه هيكل بالبقرة الضاحكة، ووجَّه إليه تهمًا كثيرة، بل ألقى حوله شبهات التجسس لحساب إسرائيل!(ص 160 ـ 161).
بينما كان هيكل منح العهد الناصري "تأييده صرفًا، ودعمه خالصًا... واستعاض عنها (المدائح البالغة) بصناعة أسطورة البطل. ولطالما أشار هيكل إلى الخدمات، والتعيينات، كما لو كانت رشى للسكوت". (ص161 ـ 163).
أشار المؤلف إلى أن "الأصل في الكتابة التاريخية الاتساق، وتشابه النتائج، تبعًا لتشابه المعطيات... كتب هيكل، بعد الانفصال أنه لم تكن هناك، في الواقع، بين الشعبين العربيين، في مصر وسوريا، من روابط فعلية، وإيجابية، لقيام الوحدة، إلا شيء واحد، هو جمال عبد الناصر، وشخصيته، وشعبيته. رغم أنه (هيكل) كثيرًا ما كتب عن الروابط، الجغرافية، والتاريخية، والدينية، والثقافية، وأهمها اللغة. وعن تيار شعبي وحدويٍ، خرج من الشام، التقى بتيار، خرج من مصر." (ص 163 ـ 164).
احتسب هيكل قرار الشيوعيين المصريين بحل حزبهم، للعهد الناصري، " رغم أنهم اتخذوه، بعد بقائهم سنوات طويلة خلف القضبان". (ص164).
هنا، يُسطِّح هيكل القضية، كما يفاخر بأن العهد الناصري كان مستبدًا، وقمعيًا. أما تسطيح هيكل للقضية، فتمثل بأنه يجهل كون السوفييت أفتوا، منذ صيف 1961، بأن عبد الناصر سائر نحو الاشتراكية، وأنه انضوى تحت مظلة النظم السائرة في الطريق غير الرأسمالي؛ ما شكَّل ضغطًا على الشيوعيين المصريين، لا قِبل لهم بمواجهته! ناهيك عن أن تنظيمين شيوعيين في مصر هما اللذين حلا نفسيهما، بينما ظل تنظيمان آخران صامدين، ولم يحلا نفسيهما .
لطالما تباهى هيكل بأنه نشر كتابات نقدية في عهد عبد الناصر، وإن كانت رمزية؛ ونسي أن "الكتابة بالرمز، وليس بالتصريح، دليل على الأجواء القمعية، التي تُلجىء الكاتب إلى النقد الرمزي" (ص 164).
من ينسى أن هيكل هو صاحب مصطلح "النكسة" الشهير، عن الهزيمة القاسية التي حلت بجيوش مصر، وسوريا، والأردن ، في حرب حزيران (يونيو) 1967؟! (ص 165).
بعد أن كان مبارك منح تأييده، ووصفه بأن لا بديل عنه، عاد، في الأيام الأخيرة لمبارك، ليؤكد "لا يوجد أحد بلا بديل، وإلا انتهت الحياة. ولو لم يوجد بديل للرئيس مبارك، فهذا الشعب يستحق أن يموت" (ص 165 ـ 166).
بعد أن أجرى هيكل بعض المراجعات لتجربة الوحدة المصرية ـ السورية، غداة انفراط عقدها، وجَّه هيكل انتقادات لإدارة القطاع العام، وللبيروقراطية المصرية، وآداء "الاتحاد الاشتراكي"، وفضلاً عن نصائح عامة عن ضرورة تعزيز الحريات. وإن لم ينتقد هيكل الاعتقالات، إلا بعد أن اقتحمت الاعتقالات معقله في "الأهرام"، عندما اعتُقل جمال العطيفي، المقرَّب إلى هيكل.
لقد رسم هيكل حدودًا لنقد التجربة الناصرية، بحيث لا تطال شخصية عبد الناصر، ولم يدرك أنه عبَّد طريقًا، سيسير فيه غيره، ويتجاوزونه (ص169).
حاول أنصار السادات بلورة أيديولوجية للنظام الجديد، بينما كان "التنظيم الطليعي صرحًا من القش"، بكلمات هيكل.
على الرغم من نقد هيكل للتجربة الناصرية، فإنه رأى بعدم استطاعة عبد الناصر الأخذ بالديمقراطية، في سبيل تمديد مشروعه؛ مؤكدًا بأن التحوُّل الكبير في مواقع الثورة ما كان له أن يتم بغير سلطة قوية. وهكذا، تخبَّط هيكل في مسيرته النقدية تلك، والأمثلة أكثر من أن تُحصى. لقد أراد أن يحكم هذا النقد، في مقداره، واتجاهه، ويُلزم الآخرين بما ألزم به نفسه.
لم يقل لنا هيكل لماذا توقع عدم قيام الدول الغربية بالعدوان العسكري على مصر(1956). بينما اقتصر توقُّع هذا العدوان على كاتبيْن سياسيين شيوعيين، هما فتحي خليل، وعلي الشلقاني.
أما محاولة تبرئة الولايات المتحدة من "العدوان الثلاثي"، فقد كذبته كوكبة من الجنرالات، والماريشالات الفرنسيين، الذين أكدوا ـ بمناسبة مرور خمسين سنة على هذا العدوان ـ بأن القوات الأمريكية شاركت القوات الفرنسية، والبريطانية، خلال اليوميْن الأولين من العدوان. كما أن أنطونى إيدن، رئيس وزراء بريطانيا قبل وأثناء العدوان، تأسى، لأنه صدق الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور، في رغبته بتأتيب عبد الناصر.
مادام هيكل يزعم ذلك، فلماذا سرَّب إلى السادات موضوع أجهزة التصنُّت، التي زرعتها المخابرات العامة المصرية في مكتب هيرمان إيلتس، القائم على رعاية الأمريكان في مصر؟! ويعترف هيكل، لاحقًا، بأن السادات أوصل هذه المعلومة المهمة إلى كمال أدهم، مدير المخابرات السعودية، والمشرف على المخابرات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط؟! ثم، بعد ذلك، يتحيَّز هيكل للسادات ضد اليسار الناصري (مجموعة علي صبري، وشعراوي جمعة)، على النحو المعروف، في 15 أيار (مايو) 1971؟!
بعد سقوط حسني مبارك (2011)، شكُّك هيكل ـ بأثر رجعي ـ في الأهمية العسكرية للضربة الجوية الأولى في حرب 1973؛ وأن السادات أرادها "مظاهرة جوية"؛ لرفع الروح المعنوية للقوات المصرية، ولكي يسترد الطيارون المصريون ثقتهم في أنفسهم .
علَّق أحد أهم كتاب يومية "صنداي تايمز" اللندنية، على كتاب هيكل "أوهام القوة والنصر" بأن هيكل "يُقدِّم (اسكتشات) مسلية عن زعماء العالم، وهم يهرعون للتليفون، يبثُّون لبعضهم البعض مخاوفهم، وحساباتهم، وهو لا يُقَّدم أي مصدر لهذه المحادثات الخاصة".
بعد أن وصف هيكل مبارك، أثناء توليه رئاسة الجمهورية، بأنه "أمانة في ضمير كل مصري"، عاد هيكل وحذف هذه الجملة من الكتاب، الذي جمع فيه هيكل مقالاته، زمن مبارك؛ لأنها لا تتسق والهجمات التي شنَّها على مبارك. (ص 225 ـ 226).
ما أن غضب السادات على هيكل، وأزاحه عن "الأهرام"، ربيع 1974، حتى أخذ الثاني يناكف الأول، ويغمز من قناته. وحانت السانحة، بمجرد أن قُتل السادات، وأصدر هيكل كتابه "خريف الغضب"، وفيه كال هيكل التهم، جزافًا للسادات. (ص247 ـ 252)
"اللغة وعاء المعرفة"، وقد قال الأديب المصري فاروق جويدة عن هيكل "هو دائمًا، يطارد الكلمة الجميلة"، وقد أعاد المؤلف هذا الأمر إلى " كثرة استخدام التشبيهات ، و الاستفسارات ، و المحسنات البديعية" في كتابات هيكل .(ص288 ـ 352).
ختم المؤلف سِفره الثري هذا، بما أسماه "النتائج" (ص 353 ـ 358)، إلا أنها لم تكن كذلك، بل مجرد تلخيص للكتاب، ووضعه في كبسولة، متمنيًا على المؤلف إعادة النظر في هذه "النتائج"، في الطبعات التالية لهذا الكتاب المهم.
إقرأ أيضا: تاريخ مصر الحديث والمعاصر.. قراءة في تجربة هيكل (1من2)