هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في كتابه (فن الممثل الكوميدي L'Art du Comédien) يُقَسّم المخرج المسرحي وعالِم النفس الفرنسي (أندريه يلييه Andre Villiers) ممثلي الكوميديا إلى ممثلين يقومون بالأدوار النمطية اعتمادا على ملامحهم الجسدية (كممثلة دور الفتاة الشبقة إلى درجة الإضحاك أو ممثل دور العجوز البخيل إلخ)، وآخرين يقومون بالأدوار المركَّبة ويستطيعون خلق الضحك من داخل الموقف مثل تشارلي تشاپلن.
قال يلييه في كتابه -اعتمادا على اختبارات نفسية أُجرِيت لنوعَي الكوميديِّين- إنّ هناك ملمحا واضحا يكاد يكون عامّا في شخصيات ممثلي الأدوار النمطية، هو أنهم يكونون أكثر قبولا للإهانة والضَّعة في حياتهم الواقعية.
يُلقي هذا التحليل ضوءا على غريزة حُب الظهور، والطرائق التي يسلكها من تتملكهم هذه الغريزة لإشباعها. كما يتقاطع تحليل (فيلييه) مع مفهوم الشوبيزنس Showbiz. ما نفهمه مباشرةً من اصطلاح الشوبيزنس (أو: صناعة الترفيه) هو ذلك المدى من المِهَن القائمة على الاستعراض، وفي القلب منها تأتي صناعة السينما والمسرح والتليفزيون فضلا عن الصناعات الموسيقية والسيرك.
لكن هل يقتصر الأمر فعلاً على هذه المهن؟ هل يبلغ حُب الظهور المركوز في الطبع البشري أقصى مداه فيمن يمتهنون ما اصطُلِح على تسميته صناعة الترفيه؟ وهل يمكن للإنسان أن يسعى إلى أن يكون الأسوأ على الإطلاق في حقل نشاطه – أو يقبل أن تُصَدر صورته للناس بهذا الشكل - ليظلّ في بؤرة الضوء ويستمرّ في العرض، على غرار ممثلي الأدوار النمطية في بحث (أندريه ?يلييه)؟!
قفزة إلى كرة القدم:
ولأن علاقتي بكرة القدم تقلّصت في الأعوام الأخيرة إلى متابعة بطولة كأس العالم فقط، فسأتحدث عن هذه البطولة كمثال. مَن مِن مُحبِّي منتخب ألمانيا يقوى على مغالبة السخرية من أداء ونتيجة بطل العالم 2014 وخروجه المبكر من دور المجموعات في كأس العالم 2018؟ بالتأكيد ينطبق الأمر ذاته على مشجعي الكرة الأفريقية بعد خروج منتخبات أفريقيا الخمسة متراوحةَ الأداء والنتائج بين العقم الكامل كما في حالة منتخب مصر والخذلان في آخر مباراة كما في منتخبي نيجيريا والسنغال.
كما يمكننا أن نلاحظ سخرية مشابهة في تعليقات محبّي ليونيل ميسّي على صيامه عن التهديف في المباراتين الأولَيين للأرجنتين، قبل هدفه في شباك نيجيريا في المباراة الأخيرة التي أنقذَت التانجو من الخروج المبكر.
تقفز إلى ذهني ذكرى من كأس العالم 1990 في إيطاليا، آخر دورة شارك بها منتخب مصر قبل روسيا 2018. كان منتخب رومانيا يلعب ضمن المجموعة الثانية مع الأرجنتين والكاميرون والاتحاد السو?ياتي، وكان المعلّقون على مبارياته يذكرون دائما أن رومانيا هي الحصان الأسود لكأس العالم هذا العام. سألتُ أبي عندئذٍ عن لقب منتخب مصر طالما أنّ رومانيا هي الحصان الأسود، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة سخرية مريرة، وكان هذا قبل مباراة مصر الأسطورية مع هولندا، وأجابني:
- الحمارة العَرجا!
كان هذا قاسيًا بالتأكيد على براءتي الطفولية، إلا أنه ظلَّ ملهِمًا لي رغم مرور كل هذه الأعوام!
تعود تسمية المنافس الذي يُبدي كفاءة غير متوقَّعة في أي منافسة رياضية أو غير رياضية بالحصان الأسود إلى رواية بعنوان (The Young Duke: A Moral Tale though Gay) للكاتب والسياسي البريطاني بنچامين دزرائيلي، رئيس وزراء المملكة المتحدة منذ 1874 إلى 1880 وأحد الرموز الكبرى للتيار المحافظ في الحياة السياسية في بريطانيا. بطل الرواية يشهد سباقا للخيل ينتهي بفوز حصان أسود لم ينتبه لوجوده في البداية.
لا يوجد فيما أعلم جائزة تسمى الحصان الأسود في أي منافسة رياضية، لكن دائما توجد جوائز لأصحاب النتائج الإيجابية، ففي عالم كرة القدم، هناك دائما أفضل لاعب، وهداف البطولة، وجائزة اللعب النظيف اللتي تمنحها الفيفا لأشخاص حقيقيين أو اعتباريين يمثلون في تقدير المنطمة الدولية السلوك الرياضي النموذجي، ومن بين أشهر الحاصلين عليها نجم منتخب إنجلترا جاري لينيكر عام 1990، وناندور هيديكوتي نجم منتخب المجر في خمسينات القرن العشرين والذي أصبح المدير الفني للأهلي المصري في السبعينات. لكن.. ماذا عن الحمارة العرجا؟!
نعم! في بعض بقاع العالم توجد جوائز لأسوأ لاعبي الكرة! في إيطاليا ظهرت صفيحة القمامة الذهبية Bidone d'Oro عام 2003 كمُعادِل ساخر للكرة الذهبية، تُمنَح لأكثر اللاعبين خذلانا لجمهورهم في دوري القسم الأول الإيطالي، ويصوّت على اللاعبين جمهور المستمعين إلى برنامج Catersport على المحطة الإذاعية راديو راي 2. استمرّت الجائزة حتى 2012 حيثُ توقف البرنامج الإذاعي عن البث، لكن موقع Calciobidone منح عُمرا إضافيا لهذا التقليد إلى وقتنا هذا.
أما في إنجلترا، فقد خطا موقع فانسايدِد Fansided خطوة أوسع عام 2017، فخصص عددًا من الجوائز لفئات مختلفة من الإخفاق على المستطيل الأخضر، وسمّى كل جائزة باسم لاعب في الدوري الإنجليزي صنع رقمًا قياسيًّا في هذه الفئة من الإخفاق، فهناك مثلاً جائزة لأكثر اللاعبين خروجًا من الملعب في تبديلات لصالح زملاء دكة الاحتياطي، وسماها الموقع أوّلاً باسم المهاجم الألماني ذي الأصل الپولندي لوكاس ?پودولسكي Podolski نجم فريق أرسنال سابقًا، ثم غيرها لتحمل اسم لاعب الوسط المهاجم اليا?پاني شنچي أكازاكي Okazaki لاعب لسترسيتي.
في الحقيقة لا توجد صفيحة قمامة ذهبية حقيقية في إيطاليا ولا توجد جوائز مادية ملموسة في إنجلترا مواكبة لاختيارات الجوائز المضادة Anti-Awards. في رأيي أن عدم وجود حفل حقيقي تُمنَح فيه جوائز ملموسة للأسوأ أكثر تخييبًا لآمال قطاع عريض من مشجِّعي الكرة من أداء اللاعبين (الفائزين) بجوائز الأسوأ في استفتاءَي إيطاليا وإنجلترا.
السينما - قلب الشوبيزنس يحتفي بالأسوأ:
لا يملك المرء إلا أن يقارن هذه الحالة الساخرة في نقد كرة القدم بالحالة النقدية السينمائية في الولايات المتحدة، والتي أفرزت حدثًا سنويًّا كوميديًّا أقلّ ما يوصَف به هو المسخرة. أعني بالطبع جوائز التوتة الذهبية Razzies/ Golden Raspberry Awards التي أسسها (چون ويلسون) وأقامت حفلها الأول الارتجالي عام 1981 لتتطور بعد ذلك إلى حدَث هام تتابعه وسائل الإعلام بشغف ويُعقَد سنويًّا قبل حفل جوائز الأوسكار بيوم واحد.
تخبرنا سجلات التوتة الذهبية بأن هناك عددًا من الفائزين حضروا حفلات تتويجهم وقبلوا جوائزهم بالفعل، منهم (هالي بيري Halle Berry) التي قبلت دعوتها لتسلُّم جائزتها كأسوأ ممثلة عن فيلمها Catwoman عام 2004، وخلال وقوفها على منصة الحديث تقمصت ردّ فعلها أثناء حفل الأوسكار 2002 حين فازت بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في Monster's Ball.
وتخبرنا ويكيپيديا بسبب اختيار التوتة raspberry كرمز لهذه الجائزة، حيث يقوم على أساس المصطلح الشعبي blowing a raspberry الذي يشير إلى تلك الحركة اللسانية الشفوية Linguolabial التي نعرفها في مصر كما يعرفونها في أمريكا، والتي ترمز بدورها إلى خروج الريح بصوت، فهي في التحليل الأخير إشارة على عدم الاستحسان.
المهم أن كثيرًا من الفائزين بالتوتة الذهبية والمرشّحين لها من المتحققين والمشاهير في عالم السينما الأمريكية، فقائمة المخرجين مثلاً تبدأ بستانلي كيوبريك العظيم مرشحًا سنة 1981، وصولاً إلى دارين أرونوفكسي العبقري المثير للجدل عام 2017، وقل مثل ذلك في كل فروع الجائزة. وبالمناسبة، ينطبق هذا على الجوائز المضادة التي رصدها موقع (فانسايدِدْ) للاعبي الدوري الإنجليزي، وصفيحة القمامة الذهبية للدوري الإيطالي، فالبرازيلي العظيم (ري?الدو) كان أول الفائزين بصفيحة القمامة سنة 2003، و(أدريانو) البرازيلي كذلك كرر الفوز بالجائزة ثلاث مرات.
السؤال الذي يطرح نفسَه هو: هل سنجد بين لاعبي الكرة من يتعاملون مع حفلات جوائز الأسوأ –لو قُدِّر لها أن تقام بالفعل- بنفس الأريحية والتسامح الساخر وخفة الظل التي تعامل بها نجوم السينما الأمريكيون مع جوائز التوتة الذهبية؟
في تقديري أنّ السبب وراء قبول بعض نجوم السينما جوائز التوتة يتعدى فكرة الرغبة في الإضحاك وتصدير صورة خفيفة الظل للجمهور، يتعدى هذا إلى الإخلاص لحياة العرض أو الشوبيزنس، فجوائز التوتة يمكن أن تسهم في زيادة مبيعات الفيلم ومستويات الإقبال على مشاهدته، كما تسهم في إبقاء الفائز بها في دائرة الضوء.
نوبل الوضيعة في العلوم والأدب والسلام:
عام 1991، أسس (مارك أبراهامز) محرر مجلة (حوليات البحث المستحيل Annals of Improbable Research) – المهتمة بالتقليد الساخر للحوليات البحثية الأكاديمية - أسس جائزة نوبل الوضيعة Ig Nobel Prize. في البداية، كانت الجوائز تُمنَح للاكتشافات التي (لا يمكن أو لا يصِحّ تكرار الوصول إليها كنتائج بحثية discoveries that cannot or should not be reproduced).
وكان هذا الوصف بحد ذاتِه كفيلاً بإخراج هذه الاكتشافات أو النتائج من دائرة البحث العلمي، على اعتبار أن تقاليد البحث العلمي تَعتبر قابلية النتيجة لتكرار الحدوث Reproducibility- في حالة تكرار المسار البحثي أو التجريبي المؤدي إليها بنفس الخطوات – شرطًا أساسيًّا لاعتبارها نتيجة علمية. تدريجيًّا أصبحت الجائزة تُمنَح لأصحاب المنجزات العلمية المتواضعة التي تتميز بالغرابة.
ومهّد هذا لحصول الفيزيائيين البريطانيين (أندريه جايم Andre Geim) و(مايكل بيري Michael Berry) عليها عام 2000 لنجاحهما في إحداث التحليق المغناطيسي Magnetic Levitation لضفدعة حيّة باستخدام حقل مغناطيسي ذي كثافة فيض 16 تِسلا!
ويبدو أنّ هذا الإنجاز العظيم نظريًّا/ التافِه عمليًّا بشكلٍ ما كان فاتحة خير على السير (أندريه جايم) الذي حصل على نوبل الفيزياء عام 2010 لنجاحه في عزل طبقات يبلغ سُمكها ذرة واحدة من مادة الجرافيت، تسمَّى (جرافين) وتعتبر أرقّ المواد سُمكًا وواحدة من أصلب المواد في ذات الوقت. المهم أن (أندريه جايم) لحق بـ(هالي بيري) نجمة الأوسكار والتوتة، و(ري?الدو) نجم الكرة الذهبية وصندوق القمامة!
منصّة تكريم للحمارة العَرجا:
هل نحتاج إلى إجراء اختبارات مشابهة لتلك التي ذكرَها (أندريه ?يلييه) للسينمائيين والعلماء وغيرهم ممن قبلوا جوائز (التوتة) و(نوبل الوضيعة) لمعرفة موقفهم من قبول الإهانة في الواقع؟ هل يتماهى الواقع والفيلم عند نجمة كـ(هالي بيري) في عرض متصل يشمل حياتها كلها؟ هل كان (ري?الدو) سيقبل جائزته لو كان لها وجود ملموس في حفل حقيقي؟
وإن قبلها، فهل يرجع هذا إلى أنه أقرب في شخصيته إلى ممثلي الأدوار النمطية، أم أن مجرد نجوميته الخارقة الصادرة عن مهاراته الاستثنائية في كرة القدم تجعل منه معادلاً كرويًّا لتشارلي تشاپلن في المثل الذي ساقه ?يلييه؟ وختامًا، هل يمكننا أن نعتبر كرة القدم والبحث العلمي والأدب ومساعي السلام أشكالاً مختلفةً من الشوبينزنس؟!
أتخيل الآن أن جهة مهتمة بكرة القدم قررت أن تقيم حفلاً لتوزيع جوائز أسوأ فريق في كأس العالم، وأسوأ مدير فني وأسوأ لاعب وأسوأ كاپتن وأسوأ لياقة بدنية وهكذا. وأتخيل أن الجوائز حقيقية وملموسة، وأن الحفل يقام بعد مباراة تحديد المركزين الثالث والرابع، أي قبل المباراة النهائية بيوم واحد، على غرار حفل جوائز التوتة الذهبية. بالطبع لا يتوقع أن تكون الجوائز غالية الثمن، فالتكلفة الإجمالية لجائزة التوتة الذهبية لا تصل إلى خمسة دولارات.
ربما تكون هناك جائزة الحائط المخروم لأسوأ حارس مرمى، وجائزة الكلب الحيران لأكثر المهاجمين تشتيتًا للكرة أمام المرمى، وجائزة الدب الكسلان لأقل اللاعبين لياقة بدنية، وجائزة (الحمارة العَرجا) لأسوأ فريق إجمالاً (تخليدًا لاقتراح أبي، كما تَخلَّد موقف عابر صكّه دزرائيلي في رواية منسية، وإن كنت أحتاج بالتأكيد بَذل الكثير من الجهد لإقناع الفيفا أو أي مجلة في مستوى فرانس فوتبول مثلاً بتبنّي هذا الاقتراح)!
بالتأكيد سيضيف هذا الحفل الكثير من البهجة إلى ختام كأس العالم، وسيكون فرصة للأطراف الأسوأ أن تحفر وجودها في ذكرياتنا بطريقة مختلفة. لكن على اللاعبين والأجهزة الفنية الفائزة أن يتحلّوا بالكثير من التواضع، أو بالكثير من الطموح الخبيث إلى عالم الشوبيزنس، ليقبلوا جوائزهم في ذلك الحفل. كلنا يحلم بالتكريم، فإن لم نكن كتشارلي تشاپلن، فلنحاول أن نكون العجوز البخيل، أو الشبقة لدرجة الإضحاك!