تحدثنا في الأسبوع الماضي عن جرائم حكم العسكر في مصر، وقلنا إن حقبة الحكم العسكري بدأت في خمسينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين وهؤلاء الحكام العساكر يرتكبون كل الجرائم الوطنية، وأن جرائم العسكر في مصر لا تتلخص في أعمال إجرامية ارتكبوها، أو في خيانات اقترفوها، بل إن جرائمهم تشمل الفعل.. وعدم الفعل.. أي أنها تشمل جرائم إيجابية.. وجرائم سلبية !
تحدثنا في الأسبوع الماضي عما فعلوه، وقلنا إن الجريمة الكبرى لحكم العسكر هي تدمير الإنسان، والقيم الإنسانية والخلقية التي تخلق إنسانا سويا، شريفا، وكيف أصبح من المستحيل أن يعيش الإنسان باحترامه في هذا البلد، فالفساد منظومة لا هرب منها، في كل صغيرة وكبيرة.
اليوم نتحدث عن الجرائم السلبية لحكم العسكر، عما لم يفعلوه، وكان ينبغي أن يفعلوه.
* **
حين بدأ الحكم العسكري في مصر كانت مصر مملكة كبرى، ودولة من أهم الدول في الشرق، كانت حدودها تمتد من جنوب السودان إلى فلسطين، ونفوذها واضح في غالبية إفريقيا وفي الوطن العربي كله، وممتلكاتها تمتد من مجاهل غابات إفريقيا إلى اليونان، مرورا بالجزيرة العربية وبلاد الشام.
التفريط في مصالح مصر كان دائما يتم بالتفريط في التراب الوطني، أو بالتفريط في النفوذ المصري والقوة الناعمة (والخشنة).
كانت مصر رائدة في كل المجالات، كانت سابقة لغالبية دول الشرق، كاليابان وكوريا، ولكثير من دول أوروبا، كاليونان وإيطاليا، وإسبانيا، في الزراعة والصناعة والتعليم، بل إنها كانت تسبق غالبية هذه الدول في الديمقراطية، ففي الوقت الذي كانت تعاني أوروبا من هجمات الفاشية، والانقلابات العسكرية، كانت المملكة المصرية مستقرة سياسيا، وكان الأوروبيون من هذه الدول يلجأون إلى مصر للعيش فيها، ولذلك تجد أحفاد كثير منهم ما زالوا إلى اليوم في الإسكندرية والمدن الكبرى.
حين قام انقلاب عام 1954م وتحكم الضباط في كل شيء في الدولة المصرية، فرطوا في
المصالح الحيوية والاستراتيجية للدولة المصرية، بحيث أصبحت مصر اليوم دولة وظيفية لا قيمة لها، ولا تستطيع أن تعيش إلا تحت رحمة الآخرين.
التفريط في مصالح مصر كان دائما يتم بالتفريط في التراب الوطني، أو بالتفريط في النفوذ المصري والقوة الناعمة (والخشنة).
* **
إن ما يحضر في الذاكرة اليوم هو جزيرتا تيران وصنافير، وكذلك مصيبة سد النهضة !
ولكن بإمكاننا أن نتذكر كذلك السودان كلها كيف طارت من مصر، وكيف أهملتها مصر بعد أن استقلت، وبإمكاننا أن نتذكر كذلك قرية أم الرشراش، تلك القرية التي أعطت لإسرائيل منفذا على البحر الأحمر ضاعف قوتها عدة مرات، وكان ذلك خصما من قوة مصر.
أم الرشراش التي تم الاستيلاء عليها في 10 آذار (مارس) 1949م بعملية عسكرية اسمها (عوبداه)، ومعنى الكلمة (فرض الأمر الواقع)، وبالفعل.. فرضت إسرائيل أمرا واقعا على مصر، وأصبحت تملك ميناء (إيلات)، وبهذا الميناء تمكنت من التواجد فى البحر الأحمر، وبالتالي توفرت لها القدرة على النفاذ إلى شرق إفريقيا، فأقامت علاقات وتحالفات ندفع ثمنها اليوم، مع إريتيريا، وإثيوبيا، وكينيا، ودول منابع النيل، واستطاعت بهذا المنفذ على البحر الأحمر من الوصول إلى سواحل الهند، فهذا الميناء يوفر أكثر من اربعين في المائة من واردات الكيان الصهيوني.
لقد خلقت إسرائيل فاصلا جغرافيا بين مصر والأردن والسعودية، وبين الدول العربية في إفريقيا وآسيا.
وأصبحت وكأنها تطل على باب المندب، وهذا ما دفع الجيش المصري إلى تأمين باب المندب خلال حرب 1973م، وهو ما دفع إسرائيل بعد ذلك بمحاولة احتلال جزر حنيش اليمنية، عن طريق دعم إريتريا.
هذا المنفذ على البحر الأحمر يتيح لإسرائيل تشغيل غواصاتها العسكرية (وبعضها غواصات نووية) عبر البحرين الأحمر والمتوسط، مخترقة نخاع الأمن القومي العربي.
هذا المنفذ اكتمل مع مخطط تيران وصنافير، بحيث أصبح من الممكن أن تقيم إسرائيل قناة موازية لقناة السويس.
سيقول قائل إن ذلك كان قبل أن يبدأ حكم العسكر لمصر، وهذا صحيح، ولكن ما حدث أن هؤلاء العساكر قبلوا بالوضع الجديد، وبعد عدة سنوات أدت هزائمهم العسكرية إلى مزيد من خسران التراب الوطني، والنفوذ الاستراتيجي، بحيث أصبح التفكير في موضوع مثل قرية أم الرشراش رفاهية لا تخطر ببال أحد !
* **
إن أوضح مثال على ما لم يفعله حكم العسكر، وتسبب في نتائج كارثية على البلاد والعباد، هو ما حدث في موضوع سد النهضة.
نفوذ مصر في إفريقيا، تركه هؤلاء العساكر يتناقص، ويتآكل !
إنهم جهلة.. ومجرمون!
يجهلون أن مصر بلد حكمت عليه الجغرافيا أن تكون مصالحه الكبرى خارج حدوده.
وهم مجرمون لأنهم لا يبالون إلا بالسيطرة على الحكم، ولا ينظرون إلى مستقبل الوطن أبدا، فهم مجرد عصابة، تستولي على ما غلا ثمنه وخف حمله، ولا علاقة لها بالبيت المسروق، إنهم يسرقون اليوم، ويحكمون على الأجيال القادمة بالعطش والجوع والديون، ولا يبالون، فالمهم هو أرصدتهم في بنوك الغرب.
قد يسأل سائل ما الذي كان ينبغي أن يفعلوه في موضوع سد النهضة؟
والإجابة: كان ينبغي على أي نظام وطني مصري أن يتعاون مع دول المنبع منذ عشرات السنين، من أجل تأمين المياه المصرية، ومضاعفة حصة مصر باستمرار.
كانت الفترة المثلى لتحقيق ذلك هي فترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، فقد حكم البلاد ثلاثين عاما مستقرة، دون حرب، ودون أي منازعة على الحكم، ودون أي فوضى أو منافسة سياسية من أي نوع.
خلقت إسرائيل فاصلا جغرافيا بين مصر والأردن والسعودية، وبين الدول العربية في إفريقيا وآسيا.
وأصبحت وكأنها تطل على باب المندب
لو أن هذا المخلوع يحمل هم البلاد فعلا.. لأقامت مصر السدود على منابع النيل، ولكانت مصر شريكة في ملكية وإدارة تلك السدود من البداية، ولكانت مصر هي الممول الأول لتلك السدود، بحيث يفرض الأمر الواقع، وتستفيد دول المنبع من المياه، وتكون مصر هي مانح الحياة لإفريقيا، وفي نفس الوقت تمنح نفسها القدرة على البقاء، وتربط مصالح إفريقيا بمصالحها، بهذا يكون الجميع مستفيدا.
ولكن ما حدث كان العكس تماما.. حين كان الشعب الإثيوبي يعاني من المجاعات في أواخر الثمانينيات.. لم ترسل مصر لإثيوبيا كيس طحين واحد !
لقد قطع مبارك العلاقات مع إفريقيا، وكان يتعمد إهانة القادة الأفارقة، خصوصا بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا في 1995م، وترك مبارك دول منابع النيل مرتعا للنفوذ الإسرائيلي والغربي، بل دعم مبارك انفصال جنوب السودان عن السودان، وكانت النتيجة هو ما نراه اليوم من كارثة سد النهضة.
كان ينبغي على أي حكم وطني أن يحافظ على التراب الوطني، وأن يحافظ على نفوذ الدولة المصرية.. وهذا بالضبط ما لم يفعله الضباط.. وهي جريمة سيدفع ثمنها أجيال وأجيال.. ونسأل الله أن يقيض لهذه الأمة جيلا ثائرا يتمكن من مسح آثار ما فعلوه.. وما لم يفعلوه.
الموقع الإلكتروني: www.arahman.net