كتب

الدّين والسّياسة في الفضاء المغاربي.. دراسة تاريخية

كتاب يؤرخ لمسار الإسلام السياسي في دول المغرب الكبير  (أنترنت)
كتاب يؤرخ لمسار الإسلام السياسي في دول المغرب الكبير (أنترنت)

صدرت في شهر أيلول (سبتمبر) من سنة 2018 عن شركة "سُوتيديما" للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى من كتاب"الدّين والسياسة في تونس والفضاء المغاربي بين الإرث التاريخي وإكراهات الواقع" للدّكتور المؤرّخ  عبد اللطيف الحناشي. حوى  الكتاب 276 صفحة، واشتمل على قسمين عنوان الأول: ظاهرة الديّن والسياسة في تونس" ويحوي أربعة فصول: الدين والفضاء العام جدليات التأثير والتّرشيد والتحكّم ـ الأحزاب الوسطية ذات المرجعية الإسلامية في تونس بعد الثورة ـ الحضور الشّيعي في تونس محاولة لفكّ الغموض ـ تحولات حزب "النهضة" ما بعد الثورة بين القناعة المبدئية وإكراهات الواقع.
 
أمّا القسم الثاني، فهو بعنوان "قضايا الدّين والسّياسة في الفضاء المغاربي" وحوى خمسة فصول: الشيخ عبد العزيز الثعالبي رائد السلفيّة المستنيرة في المغرب العربي ـ التيارات السلفية المدرسية في المغرب العربي ـ أيّ مستقبل للاتحاد المغاربي قي ظل حكم الإسلام السياسي؟ ـ الإخوان المسلمون في المغرب العربي: حالة ليبيا المسار والمصائر ـ اتحاد المنظمات الإسلاميّة الواجهة الخفيّة للإخوان المسلمين في فرنسا. 

يقول الدكتور عبد اللطيف الحناشي في تقديم كتابه: "لم تكن اشكالية علاقة الدين بالسياسة أو السياسة بالدين حكرا على الفضاء العربي الإسلامي بل هي إشكالية عرفتها بقية الفضاءات الحضارية... تتجدد عند نشوء الدولة العربية الحديثة، وتكرّر طرح المسألة بقوة بعد التحولات التي عرفتها بعض الدول العربية... اتخذت المسألة طابعا خلافيا حادّا أحيانا في منطقة المغرب العربي، نتيجة تعدد الأحزاب العلمانية والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية خاصّة بعد تصدّر بعضها المشهد السياسي".
 
القسم الأول: ظاهرة الدين والسياسية في تونس

ينطلق المؤلف من النص المؤسس لرمز المصلحين في تونس "خير الدين باشا" الذي لم ير غَضاضة في الاقتباس بين الاستفادة من منجزات أوروبا دون تقليد، وفي حدود ما تسمح به الشريعة معتبرا أن تحديث المجتمع الإسلامي لا يتعارض والشريعة. وتواصلت علاقة الدين بالسياسة جدلية ولكنها سلسة، ليكوّن الدين العامل الأهمّ الجامع في  معركة التحرير الوطني، بل كان أول احتجاج سلمي منظّم في تونس سنة 1885 دينيا دافع فيه التونسيون عن عاداتهم وتقاليدهم متصدّين للتجنيس. أكثر من ذلك فقد كان أغلب مؤسسي الحزب الحر الدستوري التونسي من الزيتونيين متشبثين بمرجعيتهم الإسلامية، حيث تم اختيار  ليلة القدر  لعقد مؤتمر الاستقلال سنة 1946 وترأس الشيخ الزيتوني "الفاضل بن عاشور" المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام التونسي للشغل. 

ويذكر الكاتب "في الصفحة 15" أن الخلاف بين النخبة السياسيّة حول قضايا ذات طابع ديني لم يبرز طوال فترة الاستعمار إلاّ سنة 1948 على خلفية الصراع في فلسطين وفي علاقة بمسألة توظيف الجالية اليهودية التونسية في الوظيفة العمومية... والنظر إلى طبيعة الحركة الصهيونية بين من يعتبر أن الصّراع ذو طبيعة دينية وآخر يعتبره ذا طبيعة استعمارية عنصرية". ولكن تغير وجه الصراع حين أراد بورقيبة تنظيم المؤسسة الدينية وهمّش قطاعا واسعا منها ومن علماء الزيتونة. 

 

 

لم تكن إشكالية علاقة الدين بالسياسة أو السياسة بالدين حكرا على الفضاء العربي الإسلامي بل هي إشكالية عرفتها بقية الفضاءات الحضارية


تفاعل الجدل بين الدين والسياسة حتى انتهى بظهور تنظيم الاتجاه الإسلامي سنة 1981 الذي بدأ بمرجعية سلفية ثم نهل من الفكر الإخواني ثم بما أنتجته الثورة الإيرانية. ولكن الحركة الإسلامية رزحت  تحت ضغط الواقع، وحاول تنظيمها أن يتكيّف مع الأطروحات الديمقراطية.

يرى المؤلف أن وصول حركة "النهضة" إلى الحكم سنة 2011 زاد من احتدام جدل الدين والسياسة،  وأثار مخاوف حول مكتسبات الدولة الحديثة كالتعليم والنظرة إلى المرأة وطبيعة علاقة الدولة بالدين. وشهدت معركة كتابة دستور 2014 جدلا محتدما تثبّت في أدق التفاصيل وناقش حروف مفرداته. انتهى بحسم الأمر بإلغاء عبارة الشريعة منه، أو اعتبار الإسلام مصدرا من مصادر التشريع كما رامت النهضة  تضمينه. ولكن ذلك لم يكن يعني انغلاق الفضاء الديني، إذ "تعدّدت التنظيمات والجمعيات الدينية.... فضلا عن انتشار الخطاب الديني بمضامينه المختلفة في وسائل الإعلام المتعددة". ص (43) 

درس المؤلف المسار السياسي لحركة "النهضة" من لحظة التأسيس إلى التمكين في الحكم مارّا بمحطات صراعها مع السلطة زمن "بورقيبة" و"ابن علي" وصمودها أمام آلتهما القمعية مُعرّجا على بنيتها التنظيمية ومؤسساتها الداخلية وطريقة العمل صلب هياكلها. حتى وصل الأمر إلى بدية الاستقالات صلبها بسبب ما أسماه بـ"الشيخ والانفراد بالقرار"، متحدثا عن استئثار الشيخ راشد الغنوشي بالقرارات داخل الحركة. وهو ما أدى في النهاية إلى تجميد كثير من أعضائها لعضويتهم. 

ويرى المؤلف أن موقف الحركة ظل ثابتا في قضية المرأة، حيث حسمت القول من مسألة تعدد الزوجات والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات، خاصة أن "الحركة تعتبر أن مجلة الأحوال الشخصية ليست ناشئة عن العلمانيين، بل هي نتاج عمل لجنة وطنية بقيادة الفاضل بن عاشور وأنها اعتمدت على قراءات إصلاحية متاثرة بالنص الديني ومستوعبة للحضارة الغربية، لذلك فإن الحركة مع المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل وضد النظرة الدونية إليها مع تقييد الحريات الشخصية وضد تعدد الزوجات". ص (66).

ثم يخلص المؤلف إلى تعدد الأحزاب الإسلامية في تونس مثل "حزب الإصلاح"، و"حزب التحرير" و"حزب الرحمة" و"حزب الأصالة السلفي"، الذي كان من أكثر الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية معارضة للدستور وتهجما على "النهضة" التي غيبت الشريعة. وينتهي الكاتب إلى القول: "رغم تأكيد هذه الأحزاب على مرجعيتها الإسلامية، لا تبدو علاقتها بتلك المرجعية متينة وواضحة جزئيا أو كليا". ص ( 113).

وينتهي إلى تفكيك قضية الشيعة في تونس، مبررا العوامل التي كانت وراء اتنشار المذهب الشيعي. فيرى أن التشيع الحديث قد برز محتشما في تونس ويبدو في السيد "التيجاني السّْماوي" الذي تشيّع آخر الستينيات بعد لقائه بالنجف ببعض علماء الشيعة، ثم توسعت دعوته لتصل إلى مناطق البلاد بعد انتصار الثورة الإيرانية، مبيّنا دور الفضائيات في نشر المذهب واستثمار حالة الحرية السياسية في البلاد. فقد استطاع الشيعة تأسيس حزبين سياسيين وهما "حزب الله" سنة 2011 و"حزب الوحدة" سنة 2013. كما يمتلكون صحيفة "الصحوة" وأنشأوا "رابطة التسامح التونسي" ومن أهدافها "المساهمة في إحياء مدرسة آل البيت ونشر ثقافتهم".

القسم الثاني: قضايا الدين والسياسة في الفضاء المغاربي 

ينطلق المؤلف من مسلّمة أن الشيخ عبد العزيز الثعالبي كان رائد السلفية المستنيرة في تونس. فعكس السلفية الوهابية في الجزيرة العربية، يرى أن السلفية المرتبطة بالحركة الإصلاحية العقلانية المغاربية كانت مختلفة، مشددا على دور جامع الزيتونة في ترسيخها، مستشهدا بقول الشيخ "محمد عبده" حين زيارته إلى تونس سنة 1888، "إن أهل تونس سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرا ممّا عليه أهل الأزهر". 

ويذهب المؤلف إلى الدور التنويري لعبد العزيز الثعالبي في الدعوة إلى نشر التعليم ورفض التزمت والموقف من الطرق الصوفية والدعوة إلى التسامح بين الأديان والرأي المشرّف من تحرير المرأة، نهَل الرجل فيهما من مرجعية الإسلام والحضارة الإنسانية. 

 

 

 

يبدو في السيد "التيجاني السّْماوي" الذي تشيّع آخر الستينيات بعد لقائه بالنجف ببعض علماء الشيعة ثم توسعت دعوته لتصل إلى مناطق البلاد بعد انتصار الثورة الإيرانية


ثم خلُص إلى دراسة الظاهرة السلفية في المغرب العربي الكبير من المغرب الأقصى إلى موريتانيا إلى السلفية غير الوهابيّة كجماعة "الدعوة والتبليغ"، التي ظهرت في تونس في ثمانينيات القرن الماضي، والتي انخرط في نشاطها الكثير من رموز العمل الإسلامي ثم غادروها بسبب ابتعادها عن النشاط السياسي، وكانت السلطات التونسية تغض الطرف عن أنشطة الجماعة". ص ( 179). 

ويرى المؤلف أن التيارات السلفية عموما لها نظرة خاصة إلى الدولة الحديثة والممارسة السياسية بشكل عام؛ فهي ترفض الدولة غير القائمة على الشّرع الإسلامي، ومن ثم ترفض النظام الديمقراطي وأسسه التي تخالف الشّريعة ومنهج الإسلام. لكن بقيت السلفية الجهادية والعلمية في تونس مزعجة للمجتمع السياسي التونسي وحالة طارئة عليه. وهو أمر حصل في المغرب مع "الحركة السلفية المغربية من أجل الإصلاح"، أكّد فيها التيّار أنه ليس من أهدافه ولا من طموحه الحالي المشاركة في اللعبة السياسية، وإنما الغاية تحسيس الدُّعاة بمسؤوليتهم تجاه المجتمع"، كما أعلن الشيخ محمد الفيزازي عن تأسيس حزب سياسي جديد أطلق عليه اسم "العلم والعمل،" الذي شهد زعيمه بأن "حزب العدالة والتنمية المغربي" أفضل حزب عرفه المغرب المعاصر منذ الاستقلال، من حيث المرجعية التي هي مرجعية الشعب المغربي قاطبة". ص (191)، مبينا اندماج أغلب الحركات السلفيّة في المغرب العربي في إطار الشرعية الدستورية بشكلها ومضمونها الوضعيين، ونيْلها الترّاخيص القانونية وفكّ الكثير منها ارتباطاتها المشرقية، بعد أن دخلت في مراجعات انتهت بالتخلّي عن الصفة السلفية في تنظيماتها باستثناء "الحركة السلفية من أجل الإصلاح". بينما تواصل تركيز الأحزاب الإسلامية على مدنية الدولة كما هو شأن حزب "العدالة والبناء الليبي" الذي  ركّز في بياناته على التمسّك بمقوّمات الدّولة الديمقراطية، و"الفصل بين السّلطات وسيادة القانون وكفالة الحقوق للمواطنين واحترام المواثيق الدولية". ص (227).

خاتمة: تساءل المؤلف في نهاية الكتاب عن مستقبل الاتحاد المغاربي في ظل حكم الإسلام السياسي، حيث لم تستطع الأنظمة المتعاقبة بالمنطقة تجسيد الحلم فعليا منذ نشوء فكرة تأسيس اتحاد المغرب العربي منذ مؤتمر طنجة الشهير سنة 1958، الذي ضم ممثلين عن "الحزب الدستوري التونسي" و"جبهة التحرير الوطني الجزائرية" و"حزب الاستقلال المغربي"، وانتهى بقيام الاتحاد المغاربي في شباط (فبراير) 1989 بمراكش، منتهيا إلى القول بأن الرّبيع العربي يعزز الأمل وهو أحد التأثيرات الحاسمة في إحياء فكر الإسلام السياسي من جديد.

 

 

*صحفي تونسي

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل