لا شيء يثير قلق
اليمنيين أكثر من فقدانهم الحق في استعادة دولتهم وديمقراطيتهم، وحقهم في العيش المشترك تحت راية الجمهورية، وهم يترقبون نهاية محتملة لهذا الفصل العاصف من الحرب وما نجم عنها من أزمات اقتصادية وإنسانية عميقة؛ تشكل تضحياتٍ لا يبدو أن اليمنيين سيحصلون مقابلها على مكافأة عادلة.
تمضي
السعودية ومعها الإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا (وهي الدول التي تعمل ضمن رباعية دولية معنية بتقرير مصير الحرب في اليمن) نحو نهاية أقل ما يقال عنها أنها تصادر إرادة الأغلبية الساحقة من اليمنيين، وتعيد تنصيب دُمى سياسية من المرجح أن يُدفع بها لتكون حوامل سيئة لتسوية مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك إقرار المشهد الحالي لتوزيع القوى المتصارعة وتثبيته كخارطة نفوذ مستحق لهذه الأطراف.
لفت نظري ما جاء في إحاطة المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، التي قدمها الجمعة الماضية إلى مجلس الأمن الدولي عبر الفيديو المغلق من مقره في العاصمة الأردنية عمان. في تلك الإحاطة أكد غريفيث أن اليمن "بحاجة إلى ظهور قيادة تحقق السلام، وتكون قادرة على تقديم تنازلات وإشراك جميع الأطراف في العملية السياسية".
ولست بحاجة لتأكيد أن إشارة كهذه لا تقصد بأي حال من الأحوال زعماء الحرب الذين يتصل معظمهم بأجندات إقليمية متصارعة، ويمتلك بعضهم قراراً شبه مستقل لجهة المضي في الحرب حتى تحقيق النتائج السياسية المتسقة مع أجندته. وهذا يعني أن إشارة غريفيث تتجه مباشرة نحو القيادة الشرعية التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته، ويجري تجريدتها من أية إمكانيات لفرض نفوذها على الساحة اليمنية، بالتوازي مع الجهود المنسقة التي تبذل بهدف إحلال وجوه جديدة ومرنة وبلا أجندة واضحة في بنية هذه السلطة، حتى يسهل النأي بها عن الأهداف التي شرعنت للوجود العسكري للتحالف في اليمن.
وما من مبرر لهذا النوع من الترتيبات سوى أن الدعم الذي تقدمه القوى الدولية للسلطة الشرعية، وهذا الإجماع حولها وحول رمزيتها التمثيلية للدولة اليمنية، بقيا على الدوام ملحقين بأجندة السعودية والإمارات، اللتين تحتفظان بقائمة كبيرة من المصالح المشتركة مع تلك القوى الدولية المؤثرة، خصوصاً داخل مجلس الأمن.
ليس هذا فحسب، بل إن التوجه نحو إفراغ الشرعية من الشخصيات المنحازة للمشروع الوطني، يتفق تماماً مع القناعات الراسخة لدى القوى الدولية التي لطالما أبدت حالة من عدم الارتياح منذ أن تشكل النظام الانتقالي في اليمن إثر التوقيع على اتفاق المبادرة الخليجية، في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، ونظرت إليه تلك القوى حينها بأنه انعكاس للنفوذ غير المرغوب فيه للقوى الجديدة ذات التوجه الإسلامي، على الرغم من الحصة المتواضعة لهذه القوى في السلطة الانتقالية.
لم تتحرر القوى الدولية المعنية بالأزمة والحرب في اليمن حتى الآن؛ من قناعتها البائسة بشأن الحاجة إلى دعم ترتيبات تجريد السلطة الشرعية من حواملها الوطنية، والتأكد من أن أيا من هذه الحوامل موجود في السلطة الشرعية، بعد أن دأبت التقارير المتواترة للاستخبارات الإماراتية والسعودية على تسويد صحائف القيادات المنحازة للمشروع الوطني باتهامات كاذبة بينها تهم تتصل بالإرهاب.
وهدف كهذا يبدو أن اتفاق الرياض ماض في تحقيقه في حال جرى تنفيذه وفق الإرادة السعودية الإماراتية المشتركة التي تجلت في نصوص هذا الاتفاق، وركزت أكثر ما ركزت على التخلص من صقور السلطة الشرعية، ومن ذلك الفريق من الشجعان الذين كشفوا المخطط السعودي الإماراتي ووقفوا ضده، وبدأوا في تبني خيارات جديدة للتعاطي مع التحالف وأجنداته.
لقد عكس تحرك وزراء أساسيين في الشرعية ومعهم قادة عديدون خلال الفترة الأخيرة نحو تبني خيارات جديدة، المخاوف الحقيقية من الترتيبات التي فرضتها السعودية عبر اتفاق الرياض.
وفي المقابل قامت القيادة السعودية بالتحرك عالي المستوى باتجاه تحصين اتفاق الرياض، وتجلى هذا التحرك في أحد مظاهره بالانفتاح المفاجئ على سلطنة عمان، على خلفية الحرب الدائرة في اليمن، بعد سنوات من تجاهل الدور العماني الرئيس والإيجابي. وهدف السعودية بالتأكيد هو السعي نحو تهدئة مخاوف مسقط من التحركات العسكرية السعودية، مقابل أن تحصل على موقفٍ عمانيٍ مساندٍ لاتفاق الرياض.
إن أخطر ما يعمق مخاوف اليمنيين من المآلات السيئة للترتيبات التي تشرف عليها السعودية وتدعمها القوى الدولية مدفوعة بالحرص على مصالحها، هو هذا الخطاب الذي يتردد بشكل متواصل في المحافل اليمنية، وهدفه هو تكريس خيار الحكم الشمولي المستنسخ من التجربة المصرية.
وخطاب كهذا يلقى رعاية كاملة لكونه يتسق مع المنطق المفضل لدى القيادتين السعودية والإماراتية؛ اللتين لا تطيقان سماع الحديث عن
الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة كإحدى النتائج المفترضة للتغيير، فما بالك إذا كان هذا التغيير أحد التجليات الخالدة للربيع العربي؟
واللافت أن أبو ظبي والرياض يذهبان نحو خيار تقسيم اليمن وفرض الخيارات الشمولية على فسفيسائياتها السياسية المقبلة، وكلهما ثقة بأن الغرب لم يعد يكترث للقيم الديمقراطية أو للانتهاكات التي تطال حقوق الإنسان، بقدر ما يهتم بطرق التخلص من موجات الهجرات المتتالية للمظلومين في منطقتنا ممن سحقتهم سياسات الدكتاتوريات المحمية من الغرب وحرموا من حقهم في التغيير.