السودان.. الفن التشكيلي في خدمة أهداف الثورة

مع أن فلاسفة الفن المعاصر فشلوا في الاتفاق على تعريف شامل وموحد لمفهوم الفن وتوظيفه لخدمة أهداف المجتمعات، بيد أن للسودانيين محاولة في هذا الاتجاه عبر اتفاق واسع على دور بارز للفن بكافة أشكاله في تنمية المجتمع وتحقيق طموحات ثورة الشباب في النهضة والتقدم.

في هذا الصدد، كان للفن تأثير كبير على استنهاض همم الشباب الثائر خلال الهبة الشعبية التي انتظمت السودان منذ كانون أول (ديسمبر) العام الماضي، وصارت الرسومات التشكيلية واللوحات الجدارية معلما بارزا من معالم العاصمة الخرطوم في خضم الاحتجاجات الهائلة التي تسببت بالإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في نيسان (أبريل) من هذا العام.

ولم تتوقف الأنشطة الفنية منذ ذاك الحين، بل تزامن مع فن الشوارع افتتاح العديد من صالات العرض في العاصمة الخرطوم والولايات، وبرز تيار فني جديد مهد للنقاد ابتكار مفهوم جديد للفن أطلق عليه "فن الثورة".

ويعرف هذا المصطلح الذي بات شائعا وسط الفنانين والمثقفين السودانيين، بأنه تحول كبير في مجالات السياسة والمجتمع والثقافة، ويربط هذا التحول الفن بإحدى أدوات تنمية المجتمع ونهضته في مناخ حر ومسالم، بدلا عن مفهوم الفن للتسلية فقط، فضلا عن تفتيت احتكار الفن وسط النخب المنكفئة على ذواتها حتى يصبح للفن وخصوصا الرسومات التشكيلية بعدا شعبيا يحظى بالإعجاب ويحقق في جوهره رسالة تدعم أهداف المجتمعات المحلية التي طالما حلمت بالنماء.

ومما كان جدير بالملاحظة أن أوقات الثورة في السودان، أظهرت حاجة ملحة لدى الجماهير للتعبير، وكان الفن حينها وما يزال إحدى الوسائل الأهم لذلك التعبير الثوري، وهو أمر لا تحتكره ثورة خاصة، وأنما بات ظاهرة ارتبط بالثورات عموما وفي كل أنحاء المنطقة العربية.

أكبر معرض للثورة السودانية

ويجري تجمع التشكيليين السودانيين تحضيرات واسعة النطاق لإقامة أول وأكبر معرض للثورة السودانية اختير له معرض الخرطوم الدولي خلال الفترة من كانون أول (ديسمبر) وحتى الأول من كانون ثاني (يناير) 2020م، حسب ما صرح لراديو دبنقا عبدالرحمن نور الدين مدني عضو سكرتارية تجمع التشكيليين السودانيين.

ويحوي المعرض الذي يأتي متزامنا مع مرور عام على ثورة كانون أول (ديسمبر)، أعمال التلوين كاللوحات، بالإضافة إلى الجداريات والمجسمات وفيديوهات مصحوبة بقصاصات التوعية مع عروض للبوسترات التي أعدت أثناء الحراك منذ بداية المواكب في كانون أول (ديسمبر) الماضي.

ووفقا لتصريح عبدالرحمن نور الدين مدني فإن المعرض المزمع إقامته سيحشد له كل طاقات الفنانيين التشكيليين بمختلف تخصصاتهم وإنتاجهم الفني في مهرجان كرنفالي كبير.

وأوضح أن المعرض سيعمل على نشر حلقات للوعي الجمالي والثقافي والتشكيلي والثوري مصحوبا بفعاليات من باقي الطيف الثقافي الذين كانت لهم مساهمات في زخم ثورة كانون أول (ديسمبر).

فضاء جمالي ثوري

وحسب الناقد الفني عادل سعد فإن ثورة كانون أول (ديسمبر) السودانية صنعت فضاء جماليا وإبداعيا اختلطت فيه المشاعر الشعبية مع الفنون البصرية، وشكل السياسي العام الفضاء الكلي، وداخله الشعري والموسيقي والمسرح والفضاء التشكيلي، مؤكدا بأن كل هذه الفضاءات أنتجت مجموعة من الجماليات في السادس من نيسان (أبريل).

بيد أن الدكتور حسن حسين الذي أعد ورقة خصيصا عن دور الشباب في البناء والتغيير وبناء السودان، يشير إلى ضرورة الانتباه للفرق بين الصحوة والييقظة والنهضة مشيرا إلى ساحة الاعتصام قرب القيادة في أيام الثورة الأولى والتي أطلق عليها اسم المدينة الفاضلة، معتبرا أن أيام الثورة الأولى ممكن تسميتها بالصحوة أي التفكير بالعاطفة والمثالية العالية أو الفوضي المنظمة وذلك لانكشاف الغيوم الفكرية بينما اليقظة أعلى من التفكير بالعاطفة ويغلب عليها التفكير بالعقلانية، أما العاطفة فهي تنفيذ الخطط بحماس عالٍ وفكر متقد ونضج بالإضاقة إلى التخطيط السليم معرفا بأن الشباب عبارة عن فكر وعطاء ولا تحده الحدود العمرية، معتبرا بأن السودان كسر، نظرية الحوجة مشيرا إلى المبادرات الشبابية في المنظمات الطوعية، خاصة في أعمال الخير ودرء الكوارث.

وأضاف: "إن البناء لا يكتمل إلا ببناء قدرات الشباب، ومن أهم عناصر البناء وضع الخطط الواقعية وليس المثالية. ولذلك فإنني الشباب لإدراك قدراتهم ومستوياتهم والتسويق لها بالإضافة إلى الاعتماد على الذات والتأثير على الآخرين، وأن ذلك يأتي بالتدريب وعقد ورش العمل للشباب فضلا عن القيادة الحكيمة الراشدة".

وبعد أن بيّن الفرق بين العلم والوعي أكد أن أكثر فئة متحمسة للتغيير هم الشباب وقادة الرأي متمرسين في التغيير لتجاربهم المتراكمة التي عاشوها خلال الحقب الماضية، وأن المشكلة الحقيقية التي تواجه الشباب أنهم لا يسوقون لأنفسهم.
 
من هذا الإطار الثقافي تتدفق في الخرطوم موجات فنية ذات مضامين مساندة لأهداف التغيير السياسي الذي حدث في السودان، لكن الفكرة هذه المرة تسعى لتوظيف الفنون في خدمة المجتمعات وخصوصا الريفية التي كانت جزءا أصيلا من حركة الاحتجاج التي سادت في السودان.

وفي هذا الخصوص استضافت صالة "دبنقا" للفنون وسط العاصمة الخرطوم، معرضا للفن التشكيلي بمشاركة كوكبة من التشكيليين والتشكيليات بإشراف الفنانة السودانية الشهيرة كمالا اسحق، وكل ذلك من أجل الذين يتصارعون للحصول على الماء، وهي مبادرة تنهض فيها منذ سنوات منظمة خيرية اسمها سقيا السودان.

يحاول الفن في هذا السياق أن يقدم خدماته الجمالية من أجل التنمية ومحاربة العطش في بلاد يشقها من جنوبها إلى شمالها أعظم ممر مائي عذب وهو نهر النيل.

الفن في خدمة المجتمع

تقول السيدة لينا حجاج التي تستضيف المعرض وترعاه: "إن مساهمة الفن في العمل الاجتماعي والتنموي في السودان ليس أمرا غير مألوف، لكنه ظل أسير المبادرات التقليدية، وواجهته أزمة التعبير بحرية، لكن الوضع الآن يتغير إلى الأجمل والأفضل".

وتشير حجاج في حديث مع "عربي21" إلى أن الفن بعد ثورة الشباب صار تعبيرا لذوات الفنانين، وخارجيا من أجل خدمة مجتمعهم، وأن مشروع معرض تشكيلي لأجل المحرومين من الماء العذب، يحقق هذا الغرض النبيل.

والسيدة حجاج تعمل الآن على كتاب يضم الرسومات الجدارية التي عرضت في طرقات الخرطوم خلال ثورة الشباب، ويتوقع أن ينشر الكتاب في كانون ثاني (يناير) المقبل، وهي كذلك أنجزت في وقت سابق مع شركاء آخرين كتابا ضم لوحات لكبار الفنانين السودانيين.

وأوضحت أن خطة أسرتها التي اشتهرت في مجال المال والأعمال منذ سنوات طويلة في السودان، كانت بناء متحف في السودان بيد أن عراقيل من قبل الحكومة السابقة، دفعتها لتحويل الفكرة إلى افتتاح صالة (دنيا دبنقا) للمشغولات الفنية السودانية، وتضم أيضا غاليري لعرض اللوحات الفنية للرسامين، مؤكدة بأنها تعمل على مساعدة الفنانين بتوفير المواد الفنية إضافة إلى صالة العرض "دنيا دبنقا".

وترى السيدة حجاج أن مشروع سقيا من أجل الذين يتصارعون للحصول على الماء، أثار اهتمام التشكيليين، وسارعوا من أجل المشاركة في هذا العمل الخيري الجليل.

المدير التنفيذي لمنظمة السقيا الدكتور عبد القادر محجوب عبد العاطي، الذي خطط مع آخرين لمشروع المعرض الفني، يقول لـ"عربي21": "إن فكرة توظيف الفن التشكيلي لخدمة أهداف المنظمة، نشأت من الفنانين التشكيليين أنفسهم الذين هم أعضاء أيضا في مجموعات التواصل التي تديرها منظمة السقيا".

وأضاف: "إن المنظمة نفسها نشأت كصدقة جارية لزملاء الدراسة الراحلين والذين ساهموا في اثراء حياة السودانيين، وتتمثل مشروعاتها في حفر آبار جوفية وبناء وتوصيل شبكات مياه، خصوصا وأن الحوجة كبيرة لخدمات المياه في القرى السودانية البعيدة".

وأوضح أن مجموعات التواصل الاجتماعي هي الداعم الرئيسي لأنشطة المنظمة، وهي منظمة لديها فروع في واشنطن ولندن، وهناك خطط لانشاء فروع في دول الخليج.

وأشار إلى أن المعرض الفني جزء من فعاليات تمويل مشروعات خدمات المياه، والمشاركون هم أصلا أعضاء في المنظمة، مؤكدا بأن الفنانين هم ليسوا مجرد رسامين، وإنما لديهم مشاعرهم المتوهجة التي تتفاعل مع كافة قضايا المجتمع، وأن مشاركة الفنانين في هذه الفعالية هي جزء من رسالة الفن الاجتماعية والتنموية، مبينا أن المعرض يضم لوحات لـ 46 فنانا وفنانة بينهم أساتذة في كلية الفنون الجميلة، وأسماء لامعة في مجال الفن التشكيلي مثل الفنانة كمالا إسحق.

من جانبها تحدثت كمالا إسحق لـ "عربي21"، موضحة بأن المعرض يجسد الفكرة الجوهرية لمعنى الفن، وأن الفن التشكيلي لم يكن يوما شأنا نخبويا، بل إن مساهمة الفنون في تنمية المجتمع السوداني ودعم خياراته في التنمية والرفاهية ظلت متوفرة منذ عهود طويلة.

وتشير إلى أن الانطلاقة الجديدة للفنون بعد ثورة كانون أول (ديسمبر)، كان أمرا طبيعيا بخاصة نشاط المرأة الفني الذي ترى بأنه لا ينفصل عن مجالها الفني والتعليمي والاجتماعي. 

وتعرض كمالا في غاليري "دنيا دبنقا" مجموعة من لوحاتها الملهمة، للسودانيين عامة وللأجيال الجديدة من التشكيليين السودانيين.

وتبدو سارة عمر إحدى التشكيليات المشاركات في المعرض، أكثر سعادة لمجاورتها الفنانة الكبيرة كمالا إسحق، فالأخيرة ظلت قدوة لأجيال فنية متعاقبة، ومعلما بارزا في بيبليوغرافيا الفن التشكيلي في السودان.

وتقول سارة لـ"عربي21": "إن فكرة مشاركتها بالمعرض جاءت تلبية لحاجة إنسانية واجتماعية عاجلة تتعلق بالعطش في البلاد".

وتعتقد سارة بأن ما تقوم به من إبداع فني يعد آلية ضرورية ومهمة لعكس أحلام المجتمع وآهاته، وقالت إن موضوعا مثل الحوجة إلى المياه كفيل بتوفير إلهام فني قوي للرسام.