كان متوقعاً قتل أبي بكر البغدادي، في أية لحظة، لأنه عادى الجميع، وساوى بين الأصدقاء والأعداء، وركب رأسه، وعاند نفسه، وتوهم أن دولته صارت قوة عظمى، ولها القدرة على مواجهة العالم، من دون أن يدرك أن الحرب بلا سياسة، مسألة عبثية، وأن النصر وحده لا يشكل إنجازاً، إذا لم تعقبه خطوات تعززه، ثم إنه، وبسبب عزلته وشدة الحصار عليه، انقطعت صلته بما يدور حوله، واعتمد على تقارير مساعديه وولاته، وأغلبهم سلفيون، وبعضهم متخلفون جداً، لا يحسنون غير الكرّ والفرّ، ولا يجيدون غير الذبح والقتل.
"اطرد ورابط" بدل "اضرب وانسحب"
وكان أول مأزق، واجهه تنظيم الدولة الإسلامية، عندما تمكن مقاتلوه وكانوا بحدود 300 مقاتل، وفق تقارير استخبارية أمريكية، من احتلال الموصل في العاشر من حزيران (يونيو) 2014، عندما وجدوا المدينة، وهي أكبر المدن العراقية، بعد العاصمة بغداد، مشرعة الأبواب، لا وجود لقوات عسكرية أو شرطية فيها، واعتقدوا أنها هربت خوفاً من بطشهم، وعدوا ذلك نصراً، من دون أن يعلموا أن رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي يومها، قد أصدر أوامره بانسحاب أكثر من 70 ألف عسكري من المدينة، قبل وصولهم إليها، وهذا ما كشفه تقرير اللجنة النيابية العراقية المكلفة بالتحقيق في أحداث الموصل.
وضح أن خيارات محلية شيعية، وإرادات إيرانية وأمريكية، ارتأت أن يطول الاحتلال الداعشي للمحافظات السنية، لتخريبها وإفراغها من سكانها والقضاء على مقوماتها
وقد وقع مقاتلو تنظيم الدولة في حيرة من أمرهم، وهم يضعون أيديهم على آلاف المدافع والصواريخ والمدرعات والآليات وأطنان الذخيرة، ولم تكن لديهم قدرات بشرية وفنية لتحريكها وتشغيلها، فاضطروا إلى الاتصال بقيادتهم وطلب تعزيزات، وكان في ذهنهم أن ينقلوها إلى سوريا، لأنهم كانوا يعتقدون أن بقاءهم في الموصل، لن يطول، تطبيقاً لاستراتيجيتهم، التي كانت شائعة، وقتئذ، (اضرب وانسحب) المأخوذة من المبدأ العسكري المعروف (اضرب واهرب) فغيروا مفردة (اهرب) دليل الخوف والفرار، إلى انسحب، وهي كلمة عادية لا تحمل إساءة أو تفسيراً مغرضاً، وفقاً لتعاليمهم، ولكن المفاجأة، التي بلبلت أفكارهم، أن الأوامر والاتصالات، التي أصدرتها قيادتهم إليهم قضت بأن يثبتوا في مكانهم، والتعزيزات في طريقها إليهم، فقد تغيرت الاستراتيجية السابقة (اضرب وانسحب) إلى (اطرد ورابط) والمقصود بالطرد، طرد العدو، كما هو واضح.
من الموصل إلى الرقة
وفي السادس عشر من حزيران (يونيو) 2014، كانت طلائع من قيادة التنظيم قد وصلت إلى الموصل، ومعها قرابة ألف مقاتل من ضمنهم مهندسون وفنيون وسواق عجلات وقناصة، وبدأوا بترحيل جزء من الدبابات والآليات والمدافع وصناديق العتاد إلى الرقة السورية، في الوقت الذي اتخذ معاونو البغدادي مقراتهم في الدوائر الحكومية والمعسكرات، وباشروا بتسيير شؤون المدينة، بعد أن وزعوا بيانات تدعو الموظفين المدنيين إلى الدوام في الدوائر والمصارف والمحاكم والمستشفيات، والمرافق الخدمية الأخرى، وفتحت الأسواق، واستبشر بعض السكان وخصوصاً، الكسبة وأصحاب الحرف والمحال التجارية والصيدليات، وفي ظنهم أنهم تخلصوا من ابتزاز جنرالات المالكي، وبخاصة قائد العمليات اللواء مهدي الغراوى، الذي كان يفرض عليهم أسبوعياً، أتاوات مالية، حسب درجة المحال وحجمها وموقعها.
عندما ظهر البغدادي في الخامس من تموز (يوليو) 2014 في الجامع الكبير، وألقى خطبته المشهورة، التي أعلن فيها خلافته للمسلمين، أدرك الموصليون أن مدينتهم انتقلت من احتلال عساكر المالكي، إلى احتلال قوات البغدادي، ولا فرق بين الاحتلالين،
وأجرى ممثلو التنظيم في الموصل اتصالات مع عدد من ضباط المدينة المتقاعدين للاستعانة بهم، ولكنهم اشترطوا على من يرغب بالالتحاق بهم، أن يكون متديناً، وإذا كان بعثياً أو قومياً أو علمانياً أن يعلن (التوبة) ويقبل تالياً أن ينسى رتبته، ويعمل في أي مكان من أرض الله الواسعة، الأمر الذي دعا الضباط إلى التحفظ على هذه الشروط، التي وجدوها قاسية ولا تنسجم مع توجهاتهم السياسية وارتباطاتهم الاجتماعية، في حين بدأت هواجس سكان المدينة وخصوصاً الموظفين ورجال الأعمال والصناعيين وأصحاب المهن، تتفاقم وتتحول إلى مخاوف، اثر إصدار التنظيم تعليمات مشددة تتدخل في خصوصيات الناس، كالامتناع عن الحلاقة، وإطالة اللحى، ومنع التدخين، وتجنب ارتداء بدلات وملابس بألوان معينة، وحظر استقبال القنوات الفضائية وتحديدها بمحطات تعرض قراءات قرآنية فقط، وإتلاف كميات كبيرة من الأدوية المنشطة وحبوب منع الحمل، واستدعاء الآلاف من الشباب الموصلي على وجبات يومية، للتحقيق معهم والتعرف على اهتماماتهم وهواياتهم.
وعندما ظهر البغدادي في الخامس من تموز (يوليو) 2014 في الجامع الكبير، وألقى خطبته المشهورة، التي أعلن فيها خلافته للمسلمين، أدرك الموصليون أن مدينتهم انتقلت من احتلال عساكر المالكي، إلى احتلال قوات البغدادي، ولا فرق بين الاحتلالين، إلا بالأشخاص، ومما صعّد من قلقهم أن أتباع التنظيم، شنوا حملة لملاحقة البعثيين والقوميين، الذين تعج بهم المدينة، ودعوتهم إلى (بيعة) الخليفة، الذي كان قد أمر في وقت سابق، باعتقال أربعين من القيادات والكوادر البعثية وعلى رأسهم عضو القيادة القطرية للحزب سالم المشهداني، في أطراف الموصل، وتصفيتهم لاحقاً، وشنه حرباً شرسة على الجماعة النقشبندية، أقوى حركات المقاومة الوطنية، الأمر الذي أحدث تصدعاً وأثار شكوكاً في العلاقة مع التنظيم، ليس بين سكان الموصل فقط، وإنما امتد إلى محافظات صلاح الدين وكركوك وديالى وشمال بابل والانبار، واكتشف السنة العرب وهم غالبية السكان في المحافظات، التي سيطر عليها التنظيم، أنه بات يطبق قوانين نوري المالكي عليهم، في تكميم أفواههم، ومنعهم من إبداء آرائهم بحرية، ومطاردة المثقفين والناشطين المدنيين، واستخدام الأساليب القهرية في التعامل معهم، وبدأت أكبر موجات النزوح من الموصل، والمحافظات الأخرى، باتجاه كردستان وتركيا والاردن.
من "أم الربيعين" إلى "أم الخرائب"
صحيح أن احتلال التنظيم للموصل استمر عامين وأربعة شهور، كانت مليئة بالقمع والحديد والنار، إلا أن الصحيح أيضاً أن مدنية الموصل وبيئتها الحضارية أوقعتاه في مشكلات وأزمات وانشغالات، تخبط فيها، وشكلت عبئاً عليه، وبدأت قبضته ترتخي فيها، برغم أنه انتفع من إجراءات المالكي، التي جردت المواطنين من أسلحتهم الشخصية، ومع ذلك ظهرت مجموعات تقاومه، وكمائن تنصب لمقاتليه، في عديد من الأحياء والمناطق، لم تجد طريقها إلى الإعلان عنها، لاعتبارات أمنية، وتحولت الموصل، ذات الملايين الثلاثة، إلى مدينة كئيبة، والحياة فيها جافة ورتيبة، بعد أن هجرها ثلثا سكانها، واكتشف التنظيم، متأخراً، أنه تورط في احتلال المدينة التي لم تستجب له ولم تتعاطف معه.
وكان من الممكن، استعادة الموصل، وتطهيرها من مقاتلي تنظيم الدولة، في أي وقت بعد احتلالها، لهشاشة سيطرة التنظيم عليها، من خلال قوة عسكرية منظمة، ولكن وضح أن خيارات محلية شيعية، وإرادات إيرانية وأمريكية، ارتأت أن يطول الاحتلال
الداعشي للمحافظات السنية، لتخريبها وإفراغها من سكانها والقضاء على مقوماتها، بدليل أن حكومة المالكي ومن بعدها حكومة حيدر العبادي، لم تطلقا طلقة واحدة على قوات التنظيم في المدينة، إلا بعد مضي 28 شهراً على احتلالها، عندما بدأت معركة تحريرها في 17 تشرين الأول (اكتوبر) 2016، وانتهت في 10 تموز (يوليو) 2017، مخلفة وراءها خراباً مروعاً، أحالها، وبخاصة جانبها الكبير الأيمن إلى أطلال، طمرت آلاف القتلى، ما زالت جثثهم تحت الأنقاض، وصارت المدينة، التي كانت تُعرف بـ(أم الربيعين) تسمى بـ(أم الخرائب) تصول فيها المليشيات الشيعية الوافدة عليها وتجول، لتدمير البقية الباقية، من بناها، وسرقة مواردها وثرواتها النفطية، ومنع أهلها النازحين من العودة إليها، والاستمرار في إهمالها، وتجنب تعميرها حكومياً بتعمد واضح.