دأبت الجهود السينمائية الصهيونية الأمريكية على تصوير استعمار فلسطين واستيطانها على أنها "النضال اليهودي للتحرر الوطني"، وكانت هذه الجهود قد أحرزت أهم انتصار لها عبر النجاح الباهر الذي حققه الفيلم الهوليوودي الصهيوني "الخروج" (Exodus) عام 1960، والذي جيّش المشاعر المساندة لإسرائيل، وما فتئ حتى اليوم يمثل مصدر إلهام للشباب الأوروبي والأمريكي الصهيوني. فالفيلم لا يذكر كيف قام الصهاينة بغزو وطن الفلسطينيين وطرد معظم شعبه وسرقة أراضيه، بل يصور الفلسطينيين كعقبة من الكراهية وقفت في وجه إقامة وطن حصري لليهود.
المنظومة الأخلاقية المتفوقة
وكان فيلم "ميونيخ" الناجح، للمخرج الهوليوودي ستيفن سبيلبرغ، والذي عرض في 2005، إضافة جديدة لهذا الجهد، وإن كان ما حققه من نجاح لا يمكن مقارنته بما حققه فيلم "الخروج." ركز "ميونيخ" على نفوس اليهود في إسرائيل في سياق حملة غولدا مائير لاغتيال مثقفين فلسطينيين في أوروبا "انتقاما" لعملية ميونيخ التي شنتها جماعة "أيلول الأسود"، وقتل فيها 11 رياضيا إسرائيليا أثناء الألعاب الأولومبية في ميونيخ عام 1972. وكما كنت قد حاججت في حينها في معرض نقدي للفيلم، فإن تركيز فيلم "ميونيخ" على تفوق المنظومة الأخلاقية اليهودية على المنظومات الأخلاقية الأخرى؛ لا يحيد قيد أنملة عن المنظومة الدعائية الإسرائيلية التي تزعم بأن الجنود الإسرائيليين "يطلقون النار وهم يبكون".
النقطة الأساسية التي سعى الفيلم إلى إيصالها للجمهور هي التالي: بما أن المنظومة الأخلاقية اليهودية تتفوق على المنظومات الأخلاقية الأخرى، فقد كان الأجدر بإسرائيل أن تترفع عن استخدام نفس وسائل أعدائها في الرد
أما حقيقة أن العنف الفلسطيني لم يكن سوى جزء من المقاومة للغزو والقتل الصهيونيين، فلا يدخل في حسبان الفيلم. فالفيلم مثلا لا يتطرق إلى قصف سلاح الجو الإسرائيلي للمخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا عقب عملية ميونيخ مباشرة، والتي راح ضحيتها مئات القتلى الفلسطينيين، حيث أن ذلك لا يبدو إنه يهدد نقاء نفوس الإسرائيليين. ومع أن الفيلم يطرح تساؤلا حول إن كانت سياسة
الإرهاب التي خططت لها ونفذتها غولدا مائير واستهدفت أفرادا فلسطينيين لم تكن صائبة، إلا إنه يصر على الإجابة بأن الفلسطينيين هم من فرض خيار الإرهاب على إسرائيل. فالنقطة الأساسية التي سعى الفيلم إلى إيصالها للجمهور هي التالي: بما أن المنظومة الأخلاقية اليهودية تتفوق على المنظومات الأخلاقية الأخرى، فقد كان الأجدر بإسرائيل أن تترفع عن استخدام نفس وسائل أعدائها في الرد.
أولادنا
هذا بالضبط هو المبدأ المنظم للمسلسل ذي الإنتاج المشترك بين القناة التلفزيونية الإسرائيلية رقم 12 وقناة "إتش.بي.أو" (HBO) الأمريكية، وعنوانه "أولادنا"، والذي انتهى بثه هذا الشهر. يستهل المسلسل حلقته الأولى بحادثة اختطاف وقتل ثلاثة مراهقين يهود إسرائيليين من المستوطنين في الضفة الغربية في حزيران/ يونيو 2014، على أيدي رجلين فلسطينيَيْن عضوين في منظمة حماس، وإن كانا قد قاما بعملية الخطف من تلقاء نفسيهما ودون أن يُعلما المنظمة.
لا يزودنا المسلسل بتفاصيل عن عملية خطف المراهقين الثلاثة، ولا يذكر أنهم كانوا مستوطنين إلا عرضا، بينما يكشف هوية خاطفَيهم بأنهما فلسطينيان. ولا نعرف اسمي الخاطفين حتى الحلقة الأخيرة من المسلسل، عندما نكتشف أن الجيش الإسرائيلي قد قام بإطلاق النار عليهما وقتلهما ومن ثم قام بهدم منزلي عائلتيهما. ولكن المسلسل لا يسرد لنا الأسباب التي دفعت بالرجلين للقيام بعملية الاختطاف، ولا نعرف شيئا عن خلفيتهما أو حتى عن عائلتيهما اللتين تسكنان في مدينة الخليل، ولا يخبرنا المسلسل عن معاناة العائلتين تحت الاحتلال الإسرائيلي ولا ما يكابدانه من عنف المستوطنين اليهود.
أما العملية العسكرية الإسرائيلية التي أعقبت عملية الخطف، وأدت إلى مداهمة الجيش الإسرائيلي لأكثر من 1300 منزل ومنشأة فلسطينية واعتقال 800 فلسطيني وقتل تسعة، فإنها أحداث لا تستحق الذكر بالنسبة إلى مسلسل "أولادنا"، بينما يركز كل اهتمامه على معاناة المواطنين اليهود الإسرائيليين بعد عملية الاختطاف.
يركز الفيلم كل اهتمامه على معاناة المواطنين اليهود الإسرائيليين بعد عملية الاختطاف
وتبدأ قصة المسلسل في أعقاب اكتشاف الشرطة الإسرائيلية لجثث المراهقين اليهود الثلاثة، واندلاع أعمال العنف اليهودية التي استهدفت مدنيين فلسطينيين في شوارع القدس ومدن أخرى، حيث قام ثلاثة مستوطنين (مراهقَيْن وهم أبناء خال، ومعهم خالهم) بقتل وحرق المراهق الفلسطيني ابن الستة عشر عاما محمد أبو خضير، حيا، "انتقاما" لقتل المستوطنين الثلاثة.
الاختطاف الانتقامي
يقدم المسلسل قصة المستوطنين الثلاثة القتلى على أنها السبب الأساسي التي تنبثق منه كل الأحداث التي تليه. ويسجل المسلسل هذه الجريمة البشعة التي تمثلت باختطاف المراهق الفلسطيني من أمام بيته من قبل المراهقين اليهوديين اللذين قاما بخنقه، قبل أن يقوم خالهما بضربه بقضيب حديدي وبإشعال النار فيه وهو حيّ.
تكمن معاناة الجماهير الإسرائيلية اليهودية ومعاناة المسلسل ذاته؛ في إشكالية عدم تصديقهم بأنه يمكن ليهود أن يرتكبوا جريمة كهذه، حيث إنهم إن كانوا فعلا قد ارتكبوها فهذا سيعرّض الأخلاق اليهودية بل نفوس كل اليهود للخطر.
وفي سبيل تطهير نفوس اليهود من هذا الدنس، يقدم المسلسل للمتفرجين كل تفصيلة عن حياة الإرهابيين اليهود الثلاثة بقصد أنسنتهم. فنرى مثلا الخال يعزف الغيتار ويغني لطفلته، ويهتم بأولاد أخواته، ويعاني من شعور بالنقص أمام أبيه (والأب حاخام من اليهود العرب يدير مدرسة يهودية دينية قام بتأسيسيها)، ويعطف على أمه المريضة، ويتناول العشاء الطقسي ليوم السبت المقدس عند اليهود، ويدخن السجائر مع أولاد أخواته في الحديقة الخلفية لمنزله، المبني على أرض مسروقة من الفلسطينيين، داخل مستوطنة يهودية في الضفة الغربية.
ويخبرنا المسلسل أنه قد انتقل للسكن في المستوطنة، لا لأسباب أيديولوجية صهيونية، كما هو الحال مع المستوطنين اليهود الأشكنازيين (أي من ذوي الأصول الأوروبية)، بل نتيجة رخص الأسعار في المستوطنة مقارنة بأراضي 1948.
ويعرض لنا المسلسل أيضا مشاهد عن ابني أخواته في سياق عائلي. الأصغر بينهما مصاب بالتأتأة، ويشعر بحمل كبير نتيجة طموح أهله ومخططاتهم بأن يدرس في مدرسة دينية كي يصبح حاخاما مثل أبيه وجده لأمه. نراه يعاني من مشاعر الذنب واليأس التي يعبر عنها في جلسات مع طبيبته النفسية، وهي طبيبة أشكنازية تقدم خدماتها للمجتمع اليهودي من المتدينيين.
أما مخبر الشاباك (جهاز المخابرات الإسرائيلي الداخلي) المتدين، الذي يعثر على المجرمين ويحل لغز الجريمة، فيعاني بدوره من مشاكل وهموم مماثلة. فهو يهودي مغربي متدين شأنه شأن الإرهابيين الثلاثة، ويعاني من الشعور بالذنب نتيجة تردده في تحمل مسؤولية أمه العجوز وتوقعاتها منه ومن توقعات أخيه المتدين.
يقدم المسلسل رؤساء مخبر الشاباك وزملاءه الأشكنازيين والنائب العام الأشكنازي، الذي يترافع ضد الإرهابيين الثلاثة كممثل للدولة، على أنهم مهنيين، لا يقحمون مشاعرهم الشخصية في عملهم، بل يبدون موضوعية لا يبديها زميلهم اليهودي المغربي، وهو ما ينطبق أيضا على الطبيبة النفسية الأشكنازية، التي تصر على التعامل بمهنية وحيادية في سبيل إحلال العدالة القضائية. ويفضح هذا التصوير لليهود العرب النظرة الأشكنازية النمطية والعنصرية لهم ككائنات عاطفية، مثلهم مثل باقي العرب.
الفلسطينيان اللذان قاما بخطف المستوطنين المراهقين الثلاثة لا يحظيان بأي قسط من الأنسنة، فكل مشاهد الأنسنة التي يعرضها المسلسل تكاد تكون محصورة بالإرهابيين اليهود
إزالة الأنسنة عن الفلسطينيين
أما الفلسطينيان اللذان قاما بخطف المستوطنين المراهقين الثلاثة، فلا يحظيان بأي قسط من الأنسنة، فكل مشاهد الأنسنة التي يعرضها المسلسل تكاد تكون محصورة بالإرهابيين اليهود، وإن حظي والدا محمد أبو خضير بقسطٍ من الأنسنة (التي لا تطال إخوة محمد فيما عدا أخيه إياد الذي ينال قسطا ضئيلا منها)، وإن كان أقل بكثير من مشاهد أنسنة قاتلي ابنهم.
لا يعرض المسلسل مشاهد عن حياة عائلة أبو خضير اليومية، ما عدا في حدادهم على ابنهم الذي يشاركهم فيه فلسطينيون مجهولون وبلا أسماء. فمثلا، لا نرى العائلة تغني، أو تتناول وجبة العشاء، أو تتبادل الهدايا، كما هو الحال مع عائلات القتلة اليهود، وإن كنا نراهم يعملون عند رؤساء يهود أو مع زبائن من اليهود. ونرى أيضا مشادة بين المراهق محمد أبو خضير وأبيه، حيث كان محمد مغرما بفتاة سورية لاجئة تعيش في إسطنبول يبعث لها رسائل على هاتفه المحمول دون توقف، ما أدى إلى إهماله لعمله. ونكتشف أن محمد يحب رقص الدبكة، لكن عدا عن ذلك لا نعرف عنه إلا القليل.
وهناك فلسطيني آخر يسمح له المسلسل بالحديث عن نفسه ولكن دون تزويدنا بمعلومات عن حياته. فيخبرنا أبو زهدي بأن الجيش الإسرائيلي قام بقتل ابنه وبهدم بيت العائلة كعقاب على مقاومة ابنه للاحتلال، ولكن لا يعرض المسلسل أي مشاهد عن ابنه وعائلته في محاولة لأنسنتهم. وفيما خلا ذلك، يقدم المسلسل الفلسطينيين كرعاع يستخدمون العنف ويعكرون صفو مدينتهم التي تحتلها إسرائيل، والتي أعلنتها عاصمة للدولة اليهودية.
يعبر مخرجو المسلسل عن فخرهم بموضوعيتهم السطحية نتيجة عرضهم لبعض مظاهر معاناة الفلسطينيين والوضع الكافكائي الذي وجدت عائلة أبو خضير نفسها فيه، لا سيما عمليات الاستجواب التي تعرضت لها من قبل الشرطة الإسرائيلية. لكن التعاطف الذي يعرضه المسلسل مع عائلة أبو خضير هو نقطة في بحر التعاطف الذي يعرضه مع الإرهابيين اليهود الثلاثة وعائلاتهم، والذي يكرس مسلسل "أولادنا" معظم مشاهده له.
الاعتراض على المسلسل
على الرغم من ذلك، فإن المسلسل يفضح التمييز الذي يتعرض له الفلسطينيون على يد الشرطة الإسرائيلية، وأجهزة الأمن، والقانون، والمحاكم، وهو ما تسبب بإدانة المسلسل من قبل الإسرائيليين اليهود الذين أرسلوا مئات الرسائل معترضين على تحيز المسلسل للفلسطينيين بحسبهم، كما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتنديد بالمسلسل على أنه مسلسل "معاد للسامية"، وطالب الإسرائيليين بمقاطعة القناة 12 الإسرائيلية المنتجة له.
وبالرغم من أن عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة قد أدت إلى الهجوم الإسرائيلي على غزة في تموز/ يوليو 2014، والذي راح ضحيته 2251 فلسطينيا، بمن فيهم 551 طفلا على الأقل، و11,231 جريحا، بمن فيهم3436 طفلا، إلا أن المسلسل لا يعرض سوى مشاهد من التغطية التلفزيونية الإسرائيلية للهجوم الإسرائيلي على غزة، ودون أية توضيحات أو تفاصيل. كما لا يتعرض المسلسل لدعوة النائبة الإسرائيلية في الكنيست أييلت شكد، على فيسبوك، إلى إبادة الشعب الفلسطيني كله قبل يوم واحد من قتل محمد أبو خضير، وهي دعوة نالت تأييد الآلاف. وقد تبوأت شكد منصب وزيرة العدل بعد أقل من سنة من دعوتها الإجرامية هذه. لكن كل هذه الأحداث ليست ذات أهمية بالنسبة إلى المسلسل.
فالعظة من القصة التي يسردها مسلسل "أولادنا" هي أن الفلسطينيين الذين لا يقاومون الاستعمار والعنصرية الإسرائيلية، والذين يعملون عند يهود ويتعاملون معهم (كان محمد قد اشتغل كنادل في مطعم يهودي قبل أن يقتل) لا يستحقون أن يُحرق ابنهم حيا، حيث يحط هذا من تفوق المنظومة الأخلاقية اليهودية ويعرّض نفوس اليهود للخطر. أما الفلسطينيون الذين يقاومون إسرائيل، فإنهم يستحقون الحرق أحياء بالقنابل الإسرائيلية، دون أن يمثل ذلك تهديدا لتفوق المنظومة الأخلاقية اليهودية.
أن الفلسطينيين الذين لا يقاومون الاستعمار والعنصرية الإسرائيلية، والذين يعملون عند يهود ويتعاملون معهم لا يستحقون أن يُحرق ابنهم حيا، أما الفلسطينيون الذين يقاومون إسرائيل، فإنهم يستحقون الحرق أحياء بالقنابل الإسرائيلية، دون أن يمثل ذلك تهديدا لتفوق المنظومة الأخلاقية اليهودية
وهنا تكمن أهمية عنوان المسلسل وهو "هنِعَريم" بالعبرية، وتعني "الشبان" أو "المراهقون"، وقد تمت ترجمته على نحو ركيك إلى العربية بكلمة "فتيانٌ"، مع إضافة التنوين في الأصل، لكن تمت عنونته بالإنكليزية بـ"أولادنا" (Our Boys)، حيث يعود ضمير الملكية المتصل "نا" على إسرائيل.
يفضح العنوان الإنكليزي للمسلسل الأجندة الأيديولوجية لمنتجي المسلسل (وليس هنالك أي فلسطيني من بينهم) ومخرجيه الثلاثة، أحدهم من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، والثاني إسرائيلي يهودي أشكنازي، بينما الثالث هو يهودي أمريكي أشكنازي مستوطن؛ أتى إلى القدس مع عائلته من المستوطنين المتدينين عندما كان في الخامسة من عمره.
تنتصر مبادئ إسرائيل الأخلاقية المتفوقة في نهاية المسلسل، وتنجو نفوس اليهود الإسرائيليين نتيجة إدانة المحكمة الإسرائيلية لليهود الإرهابيين الثلاثة بالقتل، وإن كانت المحكمة رفضت طلب عائلة أبو خضير بأن تقوم بهدم بيوت عائلات الإرهابيين اليهود كما تفعل مع "الإرهابيين" الفلسطينيين.
عدا عن ذلك، لا ينفك مسلسل "أولادنا" يذكرنا، شأنه في ذلك شأن فيلم ميونيخ، بأن ما يشكل تهديدا لتفوق المنظومة الأخلاقية الإسرائيلية ونفوس اليهود ليس إلا المقاومة والعنف الفلسطيني، وليس الغزو الاستعماري ولا الاحتلال العسكري ولا العنصرية الممأسسة. وفي تأكيده هذا، يتبع المسلسل خطى غولدا مائير في مقولتها العنصرية الشهيرة التي تلخص فيها هدف المسلسل الرئيس أفضل تلخيص: "بإمكاننا أن نغفر لكم قتلكم لأولادنا، ولكننا لن نغفر لكم أبدا إجبارنا على قتل أولادكم".