كلمات كان يرددها الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله من فوق منبر مسجد عين الحياة في منطقة حدائق القبة بمدينة القاهرة، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وكان عليه رحمة الله يرددها بطريقة متميزة لا يمكن نسيانها. وقد عادت إليّ الذاكرة بقوة خلال الأحداث التي مرت بمصر الحبيبة خلال الأسابيع القليلة الماضية، ومع ظهور محمد علي وفيديوهاته التي بثها من إسبانيا بدايات أيلول/ سبتمبر الماضي، وكذلك مع تطورات سد النهضة ومطالبة السيسي بالمساعدة الدولية والتدخل في حل المشكلة المائية التي سوف تتعرض لها
مصر والشعب المصري خلال السنوات القليلة القادمة.
فقد مر أكثر من أسبوعين على أحداث 20 أيلول/ سبتمبر 2019 ولم يحدث التغيير الذي كان يطمح إليه الشعب في مصر، بعد أن كان الكثيرون يتوقعون أو يتمنون أن يكون هناك تغيير مباشر بعد بث فيديوهات محمد علي. وقد صدرت مع الفيديوهات الكثير من الإشاعات والأخبار التي لم تتوثق؛ بأن هناك أجهزه في مصر تدعم هذا الشخص، وأن هناك صراعا داخليا بين أجهزة الحكم في مصر، بل وصلت لدرجة أن وزير الدفاع سيقوم بعزل السيسي عند رجوعه من أمريكا.. وبالطبع لم يحدث أي شيء من هذا.
ثم كانت الدعوة لجمعة أخرى أطلق عليها جمعة الخلاص، ولكن للأسف لم يحدث شيء، وجاء بعدها الإعلان عن الفشل في المحادثات بين أديس أبابا والقاهرة بخصوص سد النهضة في بدايات الشهر الحالى.
ظهر السيد محمد علي في تسجيلات الفيديو في أوائل شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، يتحدث عن بعض المشروعات التي قام بها لصالح المؤسسة العسكرية المصرية، وكيف أن هذه المشروعات طالها الكثير من الفساد، وأنه كان يعمل مع الجيش (كما ذكر) منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما. وبالتأكيد على مدى هذه السنوات كان هناك الكثير من الفساد، والذي كنا نسمع به منذ أيام عهد حسنى مبارك. ثم تطور حديث محمد علي في فيديوهاته التالية إلى مهاجمة السيسي نفسه، ووصل إلى الدرجة التي تحدث فيها عن فساد السيسي نفسه وزوجته، وتكلم عن القصور والاستراحات وتكلفتها، وبالتالي طالب في الفيديوهات التي نشرها في النصف الثاني من أيلول/ سبتمبر بإزاحة السيسي نفسه، مع أنه كان يطالب في فيديوهاته الأولى باسترداد حقوقه ومستحقاته لدى الجيش، وكان يخاطب السيسي (مع كل ما أعلنه عن فساده) بأنه حر في إدارة البلاد ولكن عليه أن يرد له حقوقه.
والجميع يعرفون كيف تطور المشهد لجمعة 21 أيلول/ سبتمبر ونزول بعض المصريين لعدد من الميادين في محافظات، مصر ثم جمعة الخلاص. كما تم تداول أن محمد علي وراءه من يسنده ويمده بالمعلومات، حتى أن البعض تحدث عن أن رجال مبارك هم من يقفون خلفه، ولكنه في آخر الفيديوهات أعلن بشكل واضح بأن الشعب المصري كله هو من يقف خلفه، وأنه لا توجد أجهزة أو مخابرات تدعمه.
وإذا أردنا أن نستعيد أحداث 25 يناير وكيف تطورت، ونقارن تلك الأحداث بما حدث خلال الشهر الماضي، نجد أن البداية كانت متشابهه من خلال دعوة للتظاهر ضد الظلم الذي تعرض له خالد سعيد وقتله، وضد نظام حسني مبارك بشكل عام. وفي 20 و27 أيلول/ سبتمبر 2019 أيضا كانت الدعوة للخروج ضد الظلم والفساد لنظام السيسي. ولكن كما نعرف جميعا كانت دعوة 25 كانون الثاني/ يناير بداية 2011 لسقوط نظام الحكم خلال أسبوعين، ولكن دعوة 20 أيلول/ سبتمبر، وإن كانت مغلفة ببعض التمنيات بأن هذه الجمعة ستكون للخلاص من السيسي، ولكن لم يحدث شيء، بل إن محمد علي نفسه بدأ الحديث عن أن إسقاط السيسي سيستغرق عاما.
في تقديري أن غياب جماعة الإخوان وكوادرها ومؤيديها هو الذي غيّر المشهد. ففي عام 2011 لم يكن متصورا أن يظهر الإخوان في الصورة، ولكنهم قرروا المشاركة وقاموا بحماية ميدان التحرير وحشدوا الجماهير. ولا أقول إنهم قاموا بالثورة، ولكنهم صنعوا التغيير الذي كان يريده الشعب، وللأسف لم يستكمل.. أما 20 أيلول/ سبتمبر فقد كان من المنتظر مشاركة الإخوان ولكن ذلك لم يحدث، وبالتالي فقدت الدعوة والمظاهرات الزخم والحشد المطلوب لتحقيق أي نتيجة أو تغيير. وهذا يزيد من درجة الإحباط التي تؤثر على أي حركة للشارع في المستقبل.. فلك الله يا مصر.
واكب تلك الأحداث وزاد في إحباط المصريين؛ ما تم الإعلان عنه من فشل المحادثات التي كانت تجري بين مصر وإثيوبيا بخصوص حصة مصر من مياه نهر
النيل، والتي سوف تتأثر بشكل كبير نتيجة بناء سد النهضة الذي تشيده إثيوبيا على النيل الأزرق الذي يمثل 60 في المئة من حجم مياه نهر النيل، وتصل هذه النسبة إلى 85 في المئة من حجم مياه النيل خلال فترة الفيضانات الصيفية، بمعنى أنه يمثل أكثر من 50 في المئة من حجم مياه نهر النيل التي تعيش عليها مصر، في مجالات الزراعة والشرب وغيرها. وحسب ما صدر في التصريحات الرسمية، فإن الحكومة الإثيوبية ترغب في ملء خزان سد النهضة خلال ثلاث سنوات، مما يقلل حجم المياه التي تصل لمصر في تلك الفترة إلى 30 مليار متر مكعب، في حين أن حصة مصر حسب الاتفاقيات الموقعة بين دول حوض النيل عام 1959 تبلغ 55.5 مليار متر مكعب. كما أن الاتفاقية المذكورة، وكذلك الاتفاقية السابقة لها والموقعة عام 1929، تنصان على التزام دول المنبع بعدم إنشاء أي مشروعات تمس بأي شكل بحقوق مصر والسودان (وهما دولتا المصب) التاريخية في مياه نهر النيل، وعدم إقامة مشاريع في دول المنبع من شأنها إحداث خلل في مياه النيل أو التقليل من كمية المياه التي تجري في الأراضي المصرية.
وبالعودة للخلف قليلا، وبالبحث عن متى بدأت المشكلة، فنجد أنه بدأ الحديث عن حقوق دول المنبع، وهي أوغندا وإثيوبيا وبروندي وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وراوندا وكينيا وجمهورية جنوب السودان، يضاف إليهما دولتا المصب وهما السودان ومصر، ثم الإعلان عن مبادرة دول حوض نهر النيل في منتصف التسعينيات لبحث التعاون بين الدول التي يجري بينها نهر النيل، ولكن في عام 2009 قررت دول المنبع في اجتماع لوزراء دول حوض النيل العشر؛ التوقيع على الاتفاقية، ورفضت مصر والسودان، فتأجل التوقيع إلى أيار/ مايو 2010، ولم توقع مصر والسودان لأن الاتفاقية لم تنص على عدم المساس بالحقوق المائية بدول المصب.
كما نذكر أن انفصال جنوب السودان أعلن في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2010، قبل أحداث ما أطلق عليه بالربيع العربي بأيام. كما انشغلت مصر بأحداث 25 يناير 2011 وحتى الانقلاب في 2013 وسيطرة العسكر على أمور الدولة مرة أخرى، وعدم الاهتمام بالشعب واحتياجاته. كما تعامل النظام المنقلب في مصر بالكثير من السفاهة والغباء مع قضية مياة النيل ومشكلة سد النهضة، مع أنه قد ارتفعت الكثير من الأصوات تحذر من التهاون في التعامل مع هذه القضية، وكانت معظم تلك الأصوات من الخبراء والمتخصصين، ولم يكن لها أي بعد أو انتماء سياسي، ومع ذلك لم يتم الإنصات لها، وكأن ما وصلنا له الآن كان مقصودا.. فلك الله يا.. مصر.
ومصر ليست وحدها، فإذا نظرنا حولنا شرقا وغربا فنجد أنفسنا نقول لك الله يا.. ليبيا، ولك الله يا.. سوريا، ولك الله يا.. اليمن ولك الله يا.. كشمير، ولك الله يا.. روهينجيا.. وغيرها وغيرها.
وختاما، فإن
الأزمات التي نعيشها، سواء في عالمنا العربي بأقطاره المختلفة، من المغرب والجزائر غربا وحتى العراق والخليج شرقا، أو في الأمة الإسلامية من أندونيسيا وماليزيا شرقا وحتى تركيا وإيران غربا، الظاهرة منها وغير الظاهرة.. كلها نتيجة ضيق النظرة التي ننظر بها للمشكلة والأزمة. فمن غير المنطقي أن أعداء الأمة سواء في الغرب أو في الشرق؛ يحاربونها كأمة إسلامية، ويسعون إلى تفتيتها وتقسيمها بكل الوسائل والسبل ويصنعون الأزمات بيننا لننشغل بأنفسنا وبالتالي يحققون أهدافهم ويزداد تقسيم الأمة وتشتتها. وفي المقابل نظل نحن نستدرج ونعيش الأزمات والصراعات فيما بيننا، سواء على مستوى القطر الواحد أو على المستوى العربي أو الإسلامي، والتي تؤدي في النهاية إلى ضياع مواردنا وهلاك مقومات الحياة الكريمة. فمتى نفيق وننظر لمشاكلنا بدائرة أبعد قليلا من أن ننظر أسفل أقدامنا.. ولك الله يا.. أمة الإسلام.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.