هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لقد كان دأب الشعر دومًا أن يثير الرؤى الفكرية الأساسية التي تتعلق بمشكلات الإنسان الوجودية، والإحساس بهذه الرؤى قد يتعلق بحيثيات تشكل الوعي والإحساس بمقولة الوطن؛ التي تشكل ضمانة أساسية لوجود الإنسان، وإذا كانت العصور القديمة لم تجعل من هذا الإحساس والوعي بها اتجاهًا واضحًا في الشعر، وذلك تبعًا لطبيعة الفكر آنذاك، فإن العصر الحديث هو ما دفع بهذا المفهوم ليصبح عمادًا أساسيًا من أعمدة الثقافة المعاصرة، فالعصر الحديث منذ بدايته اقترن بولادة قوميات جديدة أفرزها انهيار النظم السياسية القديمة، وأدى ذلك إلى ظهور الحسّ الوطني بعد الشعور بصلات الشعوب ومشاركتها في أنظمة الحكم بأشكال عدة.
وقد حملت بدايةُ دخولِ العرب في العصر الحديث العربَ على الاهتمام بهذا المفهوم، خاصة في المرحلة التي أحسّ بها العرب بالخطر على هويتهم وبلادهم مع اتباع الدولة العثمانية سياسة التتريك، وظهور القوى الاستعمارية وقوى الاحتلال في أجزاء مما يعرف الآن بالعالم العربي قاطبة، ولما كان الشعر واحدًا من أبرز مجالات الثقافة عند العرب في القديم وفي مطلع العصر الحديث، فقد شكل الاهتمام بالوطن اتجاهًا شعريًا بارزًا.
لقد ظهر هذا الاتجاه الشعري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد أظهر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم اليازجي براعة شعرية عالية في التعامل مع هذا الاتجاه، لكنّ أيًّا منهم لم يشكل هذا الاتجاه – لديه - بعدًا أساسيًا في شعره كما هو الحال مع الشاعر إبراهيم طوقان، ليس ذلك على صعيد كثرة القصائد الوطنية التي كتبها، وإنما لأنه أضفى على هذه القصائد حسًّا وجوديًا خاصًا، رابطًا بين مصيره ومصير الشعب والأمة بمصير الوطن "فلسطين"، وحاول أن يبث الوعي بمستلزمات الوطنية، ثم إنه قد برع في التشكيلات الشعرية المعبرة عن هذا البعد في القصائد والأناشيد الوطنية التي فاق انتشارها في النصف الأول من القرن العشرين القصائد العصماء التي عرفها العرب.
إن من يطّلع على حياة إبراهيم طوقان وشعره يدرك أنهما يمثلان سيرة وطنه "فلسطين" في حقبة حرجة تشكلت فيها النظم السياسية في العالم العربي في العصر الحديث، فمن جهة إن حياته القصيرة (1905- 1941م) قد كانت صدى واضحًا للصراع الدائر في فلسطين وأجزاء من العالم العربي في تلك الفترة، ومن جهة أخرى استطاع شعره أن يظهر مدى تفاعله مع الأحداث والمشاعر التي بلورتها السياقات والمعطيات التاريخية لتلك المرحلة.
لقد تفتح وعي إبراهيم طوقان في بداية حياته على مرحلة حرجة في التاريخ الحديث للعرب، فشهد ظلم الأتراك للعرب في أواخر حكمهم، كما وعى توسع الحركة الاستعمارية وتماديها في فرض سيطرتها على العرب، ثم كانت أكبر حادثة أثرت في تشكيل الحس الوطني لديه؛ وهي حركة الاستيطان الصهيوني في فلسطين بمساعدة قوى الاستعمار وبشكل خاص بريطانيا، وقد كان إبراهيم متفاعلاً مع هذه الأحداث تفاعلاً حادًا برز في شعره على نحو واضح.
لقد تميز طوقان بإدراك مفهوم الوطن وأهميته بدرجة عزّ نظيرها، تمثل ذلك على أكثر من صعيد: على صعيد كثرة شعره الوطني كثرة بارزة، فمن بين 158 قصيدة ضمها ديوانه، اشتملت 34 قصيدة على موضوع الوطن، وقد ظهر ذلك من خلال لفظتي: (الوطن/ الأوطان) أو (البلاد)، ولعل مما يلفت الانتباه أن هذا الانتشار الواسع لموضوع الوطن كان يأتي في سياقات مختلفة ومنوعة، ففضلاً عن (عشر قصائد) حملت عنوانًا دالاًّ على الوطن، يظهر تعلق الشاعر بوطنه في قصائد ذات موضوعات أخرى مثل الرثاء، أو الاستقبال والترحيب، وذلك يشير إلى مدى استحواذ الحس الوطني على نفسية طوقان.
وعلى صعيد آخر يبدو وعي طوقان لمفهوم الوطن وعيًا ناضجًا، أدرك فيه قيمة الوطن وأهميته، كما يبدو في قوله:
تلك البلاد إذا قلت: اسمها "وطنٌ" لا يفهمون، ودون الفهم أطماعُ فمن الواضح أن الوعي الذي امتلكه طوقان يتجاوز فهم "الوطن" على أنه مجرد مكان السكنى، ويُظهر هذا الشعر أن العلاقة التي تربطه بالوطن هي علاقة مصيرية، ووجودية، فعندما وقع أبناء فلسطين في حبائل المكيدة اليهودية، فأقبلوا على بيع أراضيهم لليهود بأثمان مرتفعة تصدى طوقان لذلك، فراح يبث الوعي مستشرفًا آفاق المستقبل الآتي، فقال:
يا بائع الأرض لم تحفل بعاقبةٍ ولا تعلمتَ أن الخصمَ خدّاعُ
لقد جنيتَ على الأحفادِ والهفي فهم عبيـدٌ، وخـدّامٌ وأتباعُ
وقد لجأ طوقان إلى إثارة بواعث الانتماء الوطني، ليوطد العلاقة بالوطن، فالعلاقة بالوطن هي علاقة مصيرية، تؤكد أهمية الرابطة بين أبناء الشعب والوطن بسهوله وجباله ووعوره، وقد أبرز ذلك على نحو مدهش في نشيد "وطني أنت لي"، مجلِّيًا هذه الرابطة الحميمة التي توجد أواصر الترابط الوطني بانتماء أبنائه إلى أصل واحد، وينطقون لسانًا واحدًا، فقال:
وطني إنني إنْ تسلمْ سالمٌ وبك العزُّ لي والهنا
وطني حيثُ لي محبٌّ ينطق بلساني وما أشعرُ
وطني حيث لي فؤادٌ يخفقُ وبه رايتي تُنشرُ
كما حاول أن يؤكد الوحدة الوطنية بعيدًا عن الاختلافات والفروق الدينية، فهو يؤكد أخوة المسلم للمسيحي في فلسطين، إذ يقول:
المسيحي أخٌ للمســلمِ يا فلسـطينُ بقلـبٍ وفـمِ
وقد حاول إبراهيم طوقان أن يشخص الداء الذي أصيبت به فلسطين، فحصره في أمرين: الأول بيع الأرض لليهود، والثاني تنافس زعماء فلسطين ووجهائها على مناصب شكلية في الأحزاب والبلدية، وقد تصدى إبراهيم طوقان لهذه المؤامرة، كاشفًا عن موقفه صراحة في قصائد عدة مثل: "القدس" و"غايتي" و"يا قوم"، وكاشفًا عما وراء ذلك من مؤامرات، ليتنبأ بالمصير المحتوم إذا بقي هذا حالهم.
وتنبه إبراهيم طوقان إلى أن علاج هذا الداء لا يكون إلا بأمرين: الأول حبّ الوطن، بحيث تصبح الغاية هي رؤية الوطن سليمًا معافى، وذلك ما يظهر في أناشيده: "موطني"، و"وطني أنت لي"، و"نشيد النهضة". والثاني الفداء والتضحية، وهو ما ظهر جليًا في قصائد كثيرة قالها في الشهداء.
لقد تجاوز إبراهيم طوقان المرحلة الزمنية التي عاشها، فضمّن شعره رؤى مستقبلية هي حصيلة قراءته للواقع، مما جعل هذا الشعر قادرًا على التعبير عما يعانيه الفلسطينيون حتى اللحظة الراهنة.