احتل الملف
الإيراني صدارة نشاطات الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال الأيام الماضية، سواء على مستوى كلمات المتحدثين على منصة الجمعية، أو على مستوى المشاورات والنقاشات واللقاءات التي أجريت على هامش اجتماعاتها. والأنظار كلها اتجهت صوب مقر البعثة الإيرانية وأنشطة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، ولقاءاته مع الأطراف الأوروبية، وخصوصا مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي التقى معه مرتين. وكان الجميع بانتظار الحصول على إجابة على تساؤل شغل العالم منذ أشهر؛ عما إذا كان
سيقبل روحاني باللقاء مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب أم لا. وظلت الأنظار تبحث عن هذه الإجابة حتى آخر ساعات تواجد الرئيس الإيراني في نيويورك، ولم تتوقف عن ذلك إلا بعدما غادر المدينة الأمريكية متوجها نحو طهران.
رغم أن رد روحاني اتضح بشكل نهائي قبل يومين من مغادرته، حيث قابل إلحاح ماكرون وجونسون (رئيس وزراء بريطانيا) على عقد هذا اللقاء بقهقهة ممتدة، عكسها مقطع فيديو عن لقاء ثلاثي اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يخاطب فيه الرئيس الفرنسي نظيره الإيراني قائلا إن مغادرته نيويورك "بدون الاجتماع بالرئيس ترامب تكون فرصة ضائعة"، ثم يقول جونسون إنه يتفق مع ماكرون، لكن روحاني يلتزم الصمت ويرد بقهقهة دبلوماسية، تحمل رسائل ذات مغزى سياسي للولايات المتحدة والوسطاء في آن واحد، وتختصر
الموقف الإيراني من التفاوض مع الإدارة الأمريكية في ظل الظروف الراهنة.
بيدا أن الرئيس الأمريكي راهن كثيرا على عقده لقاء مع روحاني خلال اجتماعات الجمعية العامة، ورفع بتصريحاته خلال الفترة الماضية التوقعات باحتمال حصول هذا اللقاء، لدرجة أن بعض المراقبين اعتبروا أن ذلك سيكون تحصيل حاصل، وحتى بعض المحافظين داخل إيران باتوا يتحدثون عن احتمال إبرام روحاني "اتفاقا سيئا للغاية" في نيويورك.
كان ينتظر ترامب أن يقطف من خلال صور تذكارية مع روحاني؛ ثمار ضغوطه القصوى على إيران، ليظهر نفسه منتصرا ورابحا في المعركة، وأنه جرّ الجانب الإيراني إلى طاولة التفاوض خاسرا ومهزوما من دون تقديم أي تنازلات له، مستخدما الأمر في معاركه الداخلية في مواجهة خصومه الديمقراطيين.
وفي السياق، منحت واشنطن تأشيرة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بعد فرض
العقوبات عليه أواخر تموز/ يوليو الماضي، على أمل أن تحصل المفاجأة الكبرى، لكن بعدما تأكد ترامب أنها باتت مستحيلة، فوقّع أثناء تواجد الوفد الإيراني في نيويورك على مرسوم يمنع دخول مسؤولين إيرانيين كبار وأقاربهم المباشرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مهاجرين أو غير مهاجرين.
وفي المقابل أيضا، يبدو أن إيران عندما اتخذت قرارا بشأن زيارة روحاني لنيويورك، كان ضمن حساباتها ودوافعها وجود قناعة ما حول إمكانية جني ثمار الضغوط المضادة طيلة الأشهر الماضية، في المجالات والساحات المتعددة، من خلال إيجاد تصدعات في جدار العقوبات السميك أثناء الزيارة وعبر التحركات الدبلوماسية، إلا أن الزيارة انتهت وغادر روحاني نيويورك، بينما لا لقاء حصل، كما نشد ترامب، ولا جدار العقوبات تصدّع، كما رغب بذلك الرئيس الإيراني.
جاء ذلك بعدما توقع كثيرون أن اجتماعات نيويورك توفر فرصة ثمينة للدبلوماسية الدولية لخفض التوترات في المنطقة، وخصوصا بعد الهجمات الأخيرة على "أرامكو"، والتي تشكل منعطفا مفصليا. كما حاولت فرنسا أيضا استغلال هذه الفرصة لإنجاح حراكها الدبلوماسي، من خلال إطلاق
مفاوضات مباشرة بين الجانبين الأمريكي والإيراني، انطلاقا من القناعة أن الحراك لن ينجح من دون ذلك، فتدخل الرئيس إيمانويل ماكرون بكل ثقله لجمع الرئيسين روحاني وترامب على طاولة واحدة، لكنه أخفق في ذلك، ليصاب حراكه بانتكاسة كبيرة.
كل ذلك أظهر جليا أن فرص الدبلوماسية لنزع فتيل الأزمة بين طهران وواشنطن شبه معدومة، إن لم تكن معدومة، أقله حتى الآن، ليفتح ذلك الباب على مصراعية أمام تساؤلات ملحة عن وجهة هذه الأزمة والتوترات في المنطقة.
يُستشف من جملة المعطيات الراهنة، وفي مقدمتها ما جرى خلال المناسبة الأممية في نيويورك، أن التصعيد على الأغلب سيكون سيد الموقف في المنطقة خلال المرحلة المقبلة، بعد الإخفاقات الدبلوماسية الجديدة في نيويورك، ليس بين أمريكا وإيران فحسب، وإنما بين الأخيرة وأوروبا أيضا. وفي السياق، أظهرت تصريحات الرئيس الإيراني أمام الجمعية العامة؛ أن طهران بعد مضي عام ونيف من الانسحاب الأمريكي من
الاتفاق النووي، وما تبعه من ضغوط وحرب اقتصادية شرسة، هي أكثر تشددا وإصرارا على مواقفها، والتراجع ليس واردا في حساباتها، وإنما تتخذ وضعية هجومية في إطار استراتيجية "المقاومة الفعالة"، وتصعّد في ضغوطها المضادة في مواجهة الضغوط الأمريكية.
رفض روحاني أمرين مهمين بشكل أكثر صراحة وحزما على المنصة الأممية، هما: التفاوض مع واشنطن قبل رفع العقوبات،
وتنفيذ الاتفاق النووي بشكل منفرد من خلال الدفاع عن سياسة تقليص التعهدات النووية، مؤكدا على أنه لا شيء مجانا، انطلاقا من معادلة "ربح- ربح" التي تنادي بها طهران منذ وقت طويل. وفي السياق، جاءت مخاطبته واشنطن والعواصم الأوروبية خلال خطابه الأممي، قائلا: "إذا كنتم تريدون المزيد فعليكم أن تدفعوا المزيد". والمزيد الذي تعتزم إيران تقديمه مقابل المزيد الغربي، لا يطاول القضايا الحساسة للغرب مثل البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي، وإنما هي "تغييرات جزئية" في الاتفاق النووي، لا تمس جوهره، بل تقديم مواعيد تنفيذ بعض التعهدات وإطالة أمد أخرى.
إلى ذلك، فالسياسة الإيرانية واضحة جدا: إما أن يربح الجميع أو أن يخسر الجميع، وأن الأمن في المنطقة إما للجميع بما فيهم إيران، أو لا أمن لأحد، وأنه إما أن يتمكن الكل من تصدير النفط بحرية أو لا يمكن فرض استثناءات في ذلك. وبالأساس جاء المقترح الإيراني لتأسيس تحالف "الأمل" (السلام في هرمز) في هذا السياق، لتوفير هذا الأمن للجميع. وهو مقترح يُستبعد أن يرى النور، بسبب انعدام الثقة بين طرفي الصراع الإقليمي، أي إيران والسعودية، وكذلك أن هذا الصراع خرج من سياقه الإقليمي وبات جزءا من صراع أوسع بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
خلاصة الموقف الإيراني من التوترات الراهنة، أنها لا يمكن أن تنخفض إلا من خلال معالجة جذورها، المتمثلة في الحرب الاقتصادية التي تتعرض لها، ووقفها قبل إجراء ( تفاوض ولقاء مع الأمريكيين على أي مستوى)، وهو ما ترفضه الإدارة الأمريكية، التي تصر بدورها على مواصلة ضغوطها القصوى على أمل أن تجنح إيران دون المفاوضات أو فيها لشروطها الـ12، التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أكثر من مرة بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، وهي شروط ترتبط بجميع القضايا والملفات المثارة حول إيران، تحت ثلاثة عناوين: البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي.
إذن، وعلى وقع فشل التحركات الدبلوماسية في شق طريق دبلوماسي مباشر بين إيران وأمريكا، يتوقع أن تحتدم خلال الفترة المقبلة حرب "الضغوط والضغوط المضادة" بين الطرفين على حافة الهاوية. ورغم أن سعيهما إلى ضبط إيقاع الضغوط، إلا أنه لا أحد يمكن أن يضمن ألا تخرج الأوضاع عن السيطرة في لحظة ما، نتيجة أي خطأ كبير في الحسابات، وما ستفرضه تطورات ميدانية طارئة ليصبح الميدان المتحكم بالمسار.
كما أن المتوقع أيضا هو المزيد من المسايرة الأوروبية للسياسات الأمريكية في مواجهة إيران، فأوروبا التي عجزت عن تنفيذ وعودها الاقتصادية لإيران بما ينقذ الاتفاق النووي من جهة ويخفض التوترات في المنطقة من جهة ثانية، حاولت خلال الأشهر الماضية أن تمسك العصا من الوسط بين واشنطن وطهران، على أمل أن تدفع الأخيرة بطرق ناعمة غير خشنة إلى مفاوضات تنتهي إلى حلول حول برنامجها النووي والصاروخي والإقليمي. لكن بعد فشل هذه السياسة في تحقيق المطلوب الأوروبي، ومواصلة إيران تقليص تعهداتها النووية وقربها من وقف تعهدات أكثر حساسية، على الأغلب سشهد المرحلة القادمة تصعيدا أوروبا ضد إيران، ظهرت مؤشراته في البيان الثلاثي المشترك الذي أصدره قادة الترويكا الأوروبية خلال اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك، وهو بيان غير مسبوق.
وفي السياق، وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي ركّز خلال الفترة الماضية على ملف إيران النووي من دون إثارة برنامجها الصاروخي ونفوذها الإقليمي، في تراجع أقله إعلاميا، إلا أن البيان الأخير لإيمانويل ماكرون وبوريس جونسون وأنجيلا ميركل، ذهب أبعد من ذلك، ليؤكد بوضوح على ضرورة قبول إيران
بدء مفاوضات طويلة الأمد حول جميع الملفات الحساسة.
بيد أن مردّ التصعيد الأوروبي هو تعاظم مخاوف الأوروبيين من التطورات الأخيرة، وخصوصا بعد الهجمات على منشآت نفطية سعودية في الرابع عشر من الشهر الجاري، والتي اعتبر ماكرون أنها غيّرت قواعد اللعبة، كما أظهرت في الوقت نفسه تقدما نوعيا في الضغوط المضادة لجبهة إيران في مواجهة جبهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
والحاصل أن التطورات الأخيرة أظهرت أن آفاق الدبلوماسية لا تزال مسدودة، وأن الاحتمال الأكثر ترجيحا هو تصعيد الضغوط بين الجبهتين.