هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي المصرية هذه الأيام موجة عارمة من منشورات ومصوَّرات تسخر من جمال عبد الناصر، بوصفه قائدًا مهزومًا في كل حربٍ دخلها، وبوصفه مؤسس "نظام يوليو" الحاكم في مصر حتى الآن على بعض التصحيفات بين نسخه المختلفة باختلاف رؤوسه.
وربما ترتبط تلك الموجة كذلك بحنين غامض للحقبة الملكية شاع بعض الوقت في مصر عقب ثورة يناير كردِّ فعل على هزيمة نسخة مبارك من نظام يوليو، حتى أتى عليه يوليو 2013 بخطابه السلطوي الناصري الفج، فقضى عليه تماماً.
يطرح هذا كله أسئلة أساسية حول مدى نجاح
الإصلاح الذي نشدته حركة يوليو على أرض الواقع، وماهية الأثمان المدفوعة إزاء هذا
الإصلاح، باختصار: هل أصبح الوضع أفضل في مصر بعد يوليو 52 أم كان أفضل قبلها؟
ولسنا نقصد بالأفضلية هنا أفضلية مطلقة
بالتأكيد، ولسنا نقصد بها كذلك أفضلية الوضع الاقتصادي والاجتماعي؛ لأنه منذ نهاية
الثلاثينيات كان هناك وعي عام بالمشكلة الاجتماعية في مصر التي تسبب فيها هيكل
ملكية الأرض الزراعية المختل، وكانت هناك بعض الأفكار "الإصلاحية" قيد
التداول في أوساط النُّخب المثقفة المصرية والمتمصرة، تتعلق بإصلاح أحوال الفلاحين
الصحية والتعليمية، لكن دون التعرض لهيكل الملكية. وبشكل عام لم يكن لدى الطبقة
الحاكمة أي أفق، ولم تكن مستعدة لتقديم شيء سوى بعض التنازلات الشكلية.
لكن مقصودي بالأفضلية هنا هو أفضلية وجود
إمكانية الإصلاح نفسها، بل والثورة على النظام القائم، والتي انتهت تمامًا بعد
يوليو بتسليم العملية الإصلاحية كلها للضباط، ما قضى عليها تمامًا في المحصِّلة.
ثمة رؤية شائعة، وهي صحيحة، أن نظام يوليو قايض
المصريين على حقوقهم السياسية بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. تسمي أمينة الشاكري
في كتابها "المعمل الاجتماعي الكبير" تلك المقايضة: صفقة الشيطان.
ثمَّة وجهان لتلك الرؤية: الوجه الأول هو تجاهل السياسي وتركيز النظر على الإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية التي قام بها النظام؛ سياقها وضرورتها، وهل هي نظريًّا اشتراكية أم رأسمالية دولة، أي الطبقات نفعت، وأي الطبقات آذت؟ يعني هذا، بصورة ما، الاستسلام لسردية النظام عن نفسه بوصفه نظام الضرورة الاقتصادية والاجتماعية.
الوجه الثاني، وهو الأهم في تقديري، تركيز
النظر على معنى السياسي والسلطة والحكم عند النظام؛ لأنه في الحقيقة، وبخلاف ما
روَّج النظام لنفسه، لم يكن نظام الضرورة الاقتصادية والاجتماعية، بل نظام الضرورة
السياسية، وحكم حالة الاستثناء المؤبد. لم تفلح صفقة الشيطان تلك في مواراة
السياسي أو إخفائه، بقدر ما أفلحت في إبرازه، وتغليبه على بقية عناصر تكوين
المجتمع، فأضحى منتِجًا للاقتصاد والثقافة، بل والدين نفسه.
إن التركيز على السياسي يعني استكشاف الرؤية
الشاملة التي تحرك في إطارها النظام، والتي تسكَّنت داخلها خياراته الاقتصادية
والاجتماعية الجزئية. كيف صيغت؟ ومن صاغها؟ ولمصلحة مَنْ؟ وهكذا.
والأهم من ذلك أن التركيز على السياسي يعني
ببساطة استكشاف الشروط والقيم السياسية التي جعلت من التغيُّرات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي أقدم عليها خلفاء عبد الناصر ليست فقط ممكنة
سياسيًّا، بل وتخرج فقط من جهاز الدولة الاشتراكية نفسه كما بيَّن نزيه الأيوبي.
بالتالي فإن مقصودي من وجود إمكانية الإصلاح، هو وجود إمكانية التنظيم والمشاركة
السياسية، وهذان بالضبط هما أعدى أعداء نظام يوليو.
لم يكن الضباط نبتًا غريبًا عن البيئة السياسية
والثقافية المصرية في الثلاثينيات والأربعينيات، وكثيرٌ منهم كانوا أعضاءً في
تنظيمات سرية وشبه سرية تتبنى أيديولوجيات مختلفة ساد بينها مزاج عام من نقد
الديمقراطية البرلمانية، كان هو نفسه المزاج السائد بين الفئات الشبابية الجديدة
التي دخلت ميدان السياسة بداية من الثلاثينيات بمختلف توجهاتها، وكان السبب الأبرز
لذلك التوجه هو فشل النظام البرلماني، ومن ثمَّ الوفد، في تحقيق أهدافه الأساسية:
الجلاء والدستور.
لكن هناك سببًا أهم اشتركت فيه الحالتان
المصرية والألمانية في تلك الحقبة التي أنتجت تنظيرات كارل شميت الشهيرة حول مفهوم
السياسي ومنحتها صوابيتها وراهنيتها. هذا السبب هو ببساطة أن غالبية الشعبين لم
تكن تمتلك شيئًا تقبل التصارع عليه سياسيًّا عوضًا عن الصراع على أساسٍ من سياسات
الهوية كما أضحى الحال في مصر مع هذه التنظيمات الشابة التي كانت تكن إعجابًا
متفاوتًا بالنازية والفاشية والستالينية.
كانت السياسة في مصر، كما هو معلوم، محصورة في طبقة كبار ملاك الأراضي (مجتمع النصف في المائة كما كان يُطلق عليه)، وبالتالي لم يكن ثمة دافع لدى الغالبية الساحقة من الشعب لدخول ميدان الصراع السياسي، باستثناء طبقة الأفندية الجدد الذين تكونت منهم قيادات تلك التنظيمات؛ لأنه ببساطة لم يكن يملك شيئًا ليدافع عنه أو يتفاوض عليه، وكانت الطبقة الوسطى الناشئة خارج السياسة وخارج مراكز صنع القرار في جهاز الدولة، فاتجهت للعمل السياسي من خارج النظام.
في كتاب الأزمنة السائلة نقل زيجمونت باومان عن
لورد بفريدج صاحب مشروع الرفاه في بريطانيا بعد الحرب ما مؤداه أنه بدون برنامج
قوي للرعاية الاجتماعية يتضمن الرعاية الصحية والتعليمية ورعاية المبادرة
الاقتصادية الخاصة، فإن الحديث عن الحقوق السياسية سيكون مزحة سخيفة.
ويبقى السؤال هل امتلك المصريون بعد يوليو شيئًا يحفزهم على
دخول المجال السياسي دفاعًا عن حقوقهم، بخلاف وضع ما قبل يوليو؟ لضيق المجال
سأكتفي بلفت الانتباه إلى حالة واحدة أظهرت رؤية نظام يوليو لهذه القضية، ووعيه
الشديد بأبعادها السياسية. لقد جرَّفت حركة التأميمات في 1961 البلاد بشكل شبه تام
من النشاط الاقتصادي الخاص، ووصل الأمر لتأميم محلات البقالة والمصانع الصغيرة
وتسليمها لإدارة الدولة غير المراقبة سياسيًّا.
يروي وزير الاقتصاد وقتها حسن عباس زكي أن حركة
التأميمات تلك كان سببها نقص السيولة الذي هدَّد عملية بناء السد العالي، ويقول
إنه اقترح على عبد الناصر، بعد أن أبدى عدم قناعته بحل التأميم، فرض ضريبة تصاعدية
بحيث يتم الحفاظ على رؤوس الأموال والإدارة الخبيرة، لكن عبد الناصر بعد إبداء
الموافقة المبدئية جلس مع عبد الحكيم عامر، وقرَّرا رفض مشروع الضريبة التصاعدية
والعودة لمشروع التأميم الكامل للمصريين والأجانب.
وشبيهٌ بهذه الحالة حالة ما سمي "لجان
تصفية الإقطاع" بقيادة عبد الحكيم عامر التي عاثت فسادًا في القرى والكفور،
ومازالت قصصها معروفة حتى اللحظة. ونحن في غنى عن ذكر حجم الإذلال والتجاوزات التي
حصلت؛ لأنها توضع عادة في خانة الآثار الجانبية، مع أنها في الحقيقة صلب النظام
السياسي وجوهره؛ إذ تُبين عن رؤية النخبة الحاكمة للشعب؛ مادة الحكم. وشبيهٌ
بهاتين الحالتين استيلاء الضباط الموثَّق على الأوقاف سواء كانت أراضي زراعية أو
مبانٍ أو غير ذلك.
يعود بنا هذا إلى أولوية السياسي من وجهة نظر
النظام في مقابل تصديره للأولوية الاقتصادية والاجتماعية؛ تطرح أولوية السياسي
ببساطة تساؤلًا حول الأثمان اللي تم دفعها مقابل الإصلاحات التي حصلت، ثم تراجعت
الدولة عنها حتى وصلنا إلى الوضع الحالي؟ وهل هذه الأثمان توازي المكاسب التي
تحققت؟
ونحن حين نراجع تاريخنا الآن بعد ما يقرب من 70
عامًا على نشوء نظام يوليو، ونستلهم منه العبرة والعظة، سنجد أن الحساب كان من
البداية خاسرًا ومازال. وهنا تبرز أهمية السياسي وأولويته في مصر المعاصرة.