"ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت"!

ليس هناك أبلغ في وصف حالة السيسي، إلا هذا التعبير القرآني: "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت"!

إن محنة المرء لا تكون كاملة إذا حل الموت، لكن الأزمة الكبرى هي أن يكون الموت يحيط به من كل اتجاه، ومع هذا لا يزال على قيد الحياة، يخشى الجميع، فتكون غاية المنى هي في رصاصة الرحمة التي تنقذه من هذه الحالة، فأي حياة تلك!

إن عبد الفتاح السيسي لا يعرف الآن كيف تكون نهاية حكمه، وما هي حدود هذه النهاية، وقد اختلطت في ذهنه الأوراق، والتفت الساق بالساق، وهو يدرك أنه انتهى وإن لم تقم ثورة اليوم، أو تأجل قيامها للغد، فالنهاية المحسوسة هي القرار الكاشف لنهاية واقعة فعلاً.

إن الوفاة الحقيقية لعبد الناصر كانت في سنة 1967، وإن تم تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير بعد هذا بسنوات!

وكان السادات كالطير يمشي من الألم، وهو مذبوح يوم أن عاد من زيارته المشؤومة للكنيست، وذهب إلى أهله يتمطى، ولم يعلم أنه مات بالحياة، ولم تكن رصاصات خالد الإسلامبولي ورفاقه إلا لوضع حد لحركة هذا الجسد، الذي يتحرك وروح صاحبه قد فارقته!

وانتهى حكم مبارك في سنة 2005، عندما مثل إعادة ترشيحه استفزازا، للناس، ولو غادر يومها لظل معززاً مكرماً، ولو ورّث الحكم لابنه، لكن مشكلته أنه لم يشعر بهذه النهاية.

ومات السيسي سريعا، إن شئت فقل إنه ابن موت، وعند أول فيديو للفنان محمد علي كان العد التنازلي لعهده قد بدأ، ليس لأن انقلاباً في درج المكتب، كما يروج المرجفون في المدينة، ولا أن صاحب الفيديوهات يعبر عن موقف المجلس العسكري منه، فلا يوجد أحد في المجلس العسكري بإمكانه أن يفكر ولو بينه وبين نفسه في انقلاب، أبيض أو أحمر، وقد تخلص السيسي من دائرة الانقلاب الذي قاده على الرئيس المنتخب، ومن أول صدقي صبحي، إلى محمد إبراهيم وزير الداخلية، وانتهاء باللواء العصار، الذي كان يعطي الرئيس محمد مرسي من طرف اللسان حلاوة ويروغ منه كما يروغ الثعلب، ومروراً بالفريق محمود حجازي!

بجرة قلم:

فإذا كان وزير الدفاع أو أي عضو في المجلس العسكري يمكن أن يقوم بانقلاب، فإنه يقدم على هذه الخطوة مستمدا قيمته من منصبه، والسيسي ما دام في الحكم يمكن له أن ينهي تأثيره بجرة قلم، هذا إن لم يقدمه للمحاكمة العسكرية، أو يفرض عليه الإقامة الجبرية، فلا أحد أقوى من الرئيس في منصبه. وأرجو ألا يجري استدعاء تجربة الرئيس محمد مرسي، فهذه تجربة تُحفظ ولا يقاس عليها، رحمة بالجميع!

الانقلاب العسكري، سواء برغبة العسكر أو بعدم رغبته، لا يمكن في التجربة المصرية، إلا أن يكون بغطاء شعبي عريض، تتدخل على إثره السلطة الأعلى في الجيش، فتزيح الرئيس، سواء بتوجيه خارجي أو بعدم ممانعة غربية. وقد يكون الإقدام على هذه الخطوة مدفوعا بألم نفسي على العسكر للإطاحة بولي نعمتهم، لكنهم يفعلون هذا من باب حماية أنفسهم، وعلى قاعدة التضحية بالأم من أجل حياة الجنين!

في التجربة السودانية، تردد الفريق أول سوار الذهب في الإقدام على خطوة الإطاحة بالرئيس جعفر نميري، لأسباب دينية، فقد بدا له وهو الرجل المتصوف، أن القسم الدستوري هو يشبه "العهد "عند المتصوفة، لا يجوز للمريد أن يخل به، عندما يصبح الرئيس في حكم شيخ الطريقة.

لكن مع قوة الثورة، انحاز سوار الذهب للشعب، وأعلن وقوف الجيش السوداني مع إرادة الناس، وتم بالفعل عزل الرئيس النميري.

وقد ظل البشير ثلاثين سنة يبني في أجهزة القوة ويصنعها على عينه، وجعل لكل جهاز جهازاً موازياً له، واستدعى من هم خارج الأجهزة الرسمية للقيام بدورها، لكن في ساعة الجد، وضع هذا الجيش البشير في السجن، وأذاع القادة العسكريون بيان الانقلاب!

التجربة المصرية:

وفي مصر، نزل الجيش من أول ليلة لتقديم المؤن والذخيرة للشرطة، لكنها كانت قد انسحبت، وكان عليه أن يقوم بالمواجهة، فلما رأى برهان الشعب تغيرت الخطة، ليذيع المجلس العسكري البيان رقم واحد ويختمه ممثله بتقديم التحية العسكرية لشهداء الثورة المجيدة.

وما كان لعبد الفتاح السيسي أن يقوم بانقلاب لولا الغطاء المدني، الذي توفر له!

والمعنى أنه لا تفكير في انقلاب عسكري الآن، لكن عندما تحضر الجماهير لن يكون أمام هؤلاء القوم على ضعفهم، ورغم اختيار السيسي لهم وفق معايير الولاء، إلا إجباره على التنحي، إذا لم يتخذ هو زمام المبادرة ويتنحى من تلقاء نفسه.

وهذا مما يعمق من أزمة السيسي، لأنه لا يدري الآن ماذا يفعل!.. ومن أين ستأتيه الضربة، ففي هذه اللحظات يفقد ثقته في الجميع!

لقد استدعى قيادات الجيش السابقين والحاليين للظهور بجانبه، وكانت الفرصة في جنازة رئيس أركان الجيش الأسبق إبراهيم العرابي، فكانت فرصة لظهور وزير الدفاع المقال وشريكه في الانقلاب السابق صدقي صبحي، مع الرجل الأقوى في انقلابه ورئيس الأركان المقال أيضاً، محمود حجازي، واعتبرها رسالة للناس، بأنهم معه، لكن نفسه لا تطمئن أبداً؛ لأنه ظل لليوم الأخير يلتقي مع الرئيس مرسي، على ذات طريقة الجلوس أمامه، وظل ما في القلب في القلب؛ لأن من يقود انقلاباً، لا يظهر هذا على ملامحه فيمكن قراءتها.

ثم إن قواعد اللعبة تختلف عندما تحضر الجماهير، فمن تمت صناعته على العين يتحول إلى كائن آخر، فهل كان يتصور البشير مثلاً أنه يمكن أن يأتي اليوم الذي يخذله فيه قائد قوات الدعم السريع، ويخيب رجاءه وهو من كان يصفه بـ"حمايتي"، أي حمايته هو؟!

استراتيجية السيسي:

لقد بنى السيسي استراتيجيته في الحكم على أن التساهل مع المعارضة في نهاية عهد مبارك تم استغلاله للقيام بالثورة، وهذه قراءة خاطئة للمشهد؛ لأن السيسي لا يتذكر أن آخر برلمان حرم على المعارضة، وأن النظام أراد أن يكمم الأفواه تماماً؛ لأنه لم يدرك تطور الأحداث، وأن هذا زمن الجماهير الغفيرة، وأن شرعيته تآكلت ولم يعد نمط الشرعية القديم مقنعاً، أو ملزماً للأجيال الجديدة.

بيد أن قناعة السيسي تختلف مع هذا الواقع، ولهذا قرر أن يحكم بالحديد بالنار، وهو يدرك حدود جهد خصومه، والذين انتهى بهم المطاف بعد مقتل الرئيس إلى مجرد قبول العزاء فيه، على نحو كان يفتح الباب الي استباحة كل قيادات الجماعة في السجون!

ومنذ وفاة الرئيس وقد عمت حالة من اليأس، شبيهة بتلك التي كنت أعاني منها وحبيب العادلي يتجلى بذاته، بعد فشل رئيس جهاز مباحث أمن الدولة في دفع صاحب إحدى الصحف بالتخلي عن خياره باختياري رئيساً للتحرير. ومع هذا فقد مزقت الرسالة التي وصلتني، وعلمت أن نهاية الأزمة سيكون بالاتصال بمكتبه وتحديد موعد معه!

ومع هذا اليأس شاركت في الثورة التي واجهها العادلي بكل قوة، لكن للقوة حدوداً فهرب كما هربت قواته، وسقط حسني مبارك!

وعندما ذهبنا للقصر الجمهوري في اليوم الأخير كنا مدفوعين بشحنة يأس زائدة، ومع اليأس سقط مبارك، وخرج محمد علي من رحم اليأس، وفي لحظة بدا فيها السيسي وكأنه جبروت لا يقدر عليه أحد، هز أركان حكمه، وقوض بنيانه، وكشفه للناس، وجعله يموت بالحياة، وينهي حكمه وإن ظل لفترة، أو لسنة أو أكثر!

لقد انتهى عبد الفتاح السيسي فعلا، فالسيسي قبل فيديوهات محمد علي ليس هو بعد هذه الفيديوهات، وهو الآن يعيش أسوأ أيام حياته، فلا يعرف من أن أين ستأتيه الضربة القاتلة، وقد جاءته ضربة الموت من داخل معسكره، ومن مقاول يتعامل مع الجيش وليس من قادة الإخوان، أو من زعماء السياسة في مصر!

إنه ميت بالحياة.. "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت".