تُثار حول بعض الأحكام
الشرعية، والقضايا الدينية شبهات ترمي إلى التشكيك والطعن فيها، وهي غالبا ما تأتي
من جهات ودوائر اعتادت على مهاجمة الحالة الدينية برمتها، ما يدفع علماء الدين
والدعاة إلى تفنيد تلك الشبهات، والرد على تلك التساؤلات.
لكن من الملاحظ أن بعض
الأحكام والقضايا الشرعية هي محل نقد ومراجعة من قبل علماء ومتخصصين في العلوم
الشرعية، إذ يرون أن تقريرها بحسب المدون والمتداول في المراجع الدينية، يثير جملة
من التساؤلات القلقة، التي لا يمكن تقديم إجابات وافية ومقنعة عنها، ما يفتح باب
التشكيك والطعن في
القرآن نفسه.
"نسخ تلاوة آيات
من القرآن مع بقاء حكمها" هي إحدى تلك المسائل التي تثير جدلا في أوساط
دينية، قبل أن تثيره في أوساط غير دينية، إذ يتساءل علماء ودعاة عن الحكمة من نسخ
تلك الآيات تلاوة، أي رفعها من المصحف مع بقاء حكمها وثباته؟ وكيف يمكن التسليم
بهذه المسألة هكذا، بما تثيره من تشكيكات كبيرة تتجه إلى القرآن الكريم نفسه،
حينما تثبت أن منه آيات مفقودة ومرفوعة، ولم تعد في القرآن الذي يتلوه المسلمون
الآن.
أستاذ علوم القرآن
والتفسير، وله العديد من الكتب والدراسات القرآنية، الدكتور
صلاح الخالدي أبدى
تحفظه الشديد على المقرر في مراجع "علوم القرآن" بشأن "نسخ التلاوة
مع بقاء الحكم"، وتساءل: كيف يمكننا تقبل هذا الأمر الذي يفتح الباب على
مصراعيه لعشرات الأسئلة التشكيكية حول وصول القرآن إلينا كاملا كما أنزل، لأنه
يقرر ببساطة أن ثمة آيات قرآنية نزلت وتلاها المسلمون، ثم رُفعت تلاوتها ولم تعد
بين دفتي المصحف".
وأضاف، "مع أن
جمهور علماء القرآن والمفسرين والأصوليين يقولون بوقوع هذا النوع من النسخ في
القرآن الكريم، إلا أنني ممن يرفضون هذا القول، مع علماء وأساتذة فضلاء كالدكتور
فضل حسن عباس – رحمه الله -، والدكتور أحمد نوفل، والدكتور جمال أبو حسان.
وجوابا على سؤال طرحه "
عربي21" حول أسباب رفضه لهذا اللون من النسخ في القرآن، أوضح أن مستند
العلماء في إثبات هذا الحكم هو ما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة سندا، كحديث
عمر الذي ذكر فيه أن الله "أنزل آية
الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورجمنا
بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد آية في الرجم في كتاب الله،
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله".
وعلق الخالدي على حديث
عمر بقوله: "مع أن الحديث في الصحيحين، إلا أنه معلول من جهة المتن، لأنه يفتح
الباب لادعاء أن ثمة آيات من القرآن رُفعت، وهي ليست بين أيدينا في القرآن الذي
يقرأه المسلمون اليوم، إضافة إلى جملة الشكوك التي يثيرها حول ضياع آيات من
القرآن، وأن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو القرآن الكامل الذي أنزله الله على
رسوله".
وواصل بيان رأيه ذاكرا
أنه "يعتقد جازما أن القرآن الذي بين أيدينا الآن، هو القرآن الكامل الذي
أنزله الله على رسوله، ولم ترفع منه آية واحدة، وهو الذي تكفل الله بحفظه، وكل ما
يقال عنه آيات رفعت ونسخت تلاوتها تفتقر في مفرداتها ونظمها إلى بلاغة القرآن
المعهودة، وإعجازه المتفرد، وثبوتها بالتواتر".
وتساءل الخالدي: "كيف نسلم بما روي من أن سورة الأحزاب كانت قدر سورة البقرة، ثم نُسخت وما
ورد في قول حذيفة عن سورة براءة "ما يقرأون ربعها"، فأين ذهبت تلك
الآيات التي نُسخت من سورة الأحزاب، وما هي الآيات التي نسختها، وكذلك الحال في
سورة براءة، وما قيل عن السور الأخرى".
من جهته قال الباحث
الشرعي السوري، الدكتور علي محمد زينو، إن "نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، أمر
ثابت وواقع لا ريب فيه بأدلة منها قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}، وحديث عمر في رجم الزاني، وهو في الصحيحين،
وغير ذلك مما صح إسناده".
وأضاف في حديثه لـ"
عربي21":
"وهذا هو القول المعتبر عند أهل السنة والجماعة، وأما نسخ التلاوة فالمراد به
نسخ أحكام التعبد الخاصة بالنص القرآني، كالتلاوة والمس على غير طهارة وغيرها،
وأما الحكم الشرعي فباق أكدته السنة، وجرى عليه عمل السلف والخلف".
وأشار إلى أن العلماء السابقين ذكروا الحكمة من
هذا النسخ، وبينوا المغزى منه، كما أوضحه الإمام الزركشي في كتابه (البرهان في
علوم القرآن)، وكما بينه الشيخ الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم
القرآن".
وفي السياق ذاته رأى الباحث الإسلامي المغربي،
حفيظ هروس أن "نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، قد أثار اعتراضات كثيرة في القديم
والحديث، وممن عارضه قديما شمس الأئمة السرخسي، وممن عارضه حديثا الحافظ عبد الله
بن الصديق الغماري في رسالته "ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة".
وتابع حديثه لـ"
عربي21" بالقول:
"بعد بحث المسألة والنظر في أدلة القائلين بها، والرافضين لها، فإنني أرى أن
أدلة القائلين بامتناع وقوع نسخ التلاوة أقوى من حجج القائلين به".
وأردف: "تقوم أدلة القائلين بنسخ التلاوة
على دليلين هما: الأول: الدليل العقلي المتمثل في التفريق بين التلاوة التي
اعتبروها حكما، والحكم الذي تدل عليه الآية التي اعتبروها حكما ثانيا للحكم
الأول، ومن ثم أجازوا نسخهما أو نسخ أحدهما، والثاني: الوقوع الفعلي الذي اعتبروه
دليلا على الجواز".
ووصف هروس استدلالهم العقلي السابق بأن
"ضعفه يتمثل في تفريقهم بين الآية والحكم المستفاد منها مع أنهما متلازمان،
لأن الحكم لا يثبت دون دليله كما قال السرخسي وغيره، يضاف إلى ذلك أن أغلب الأدلة
التي أوردوها كأمثلة على وقوع نسخ التلاوة، لا تخلو من مقال في أسانيدها أو نكارة
في بعض متونها، كما بينها الحافظ الغماري في رسالته السابقة".
ولفت هروس في ختام حديثه إلى أن "المهم هو
أنه على فرض صحتها، فإنها ليست دليلا لأنها ليست قرآنا (لأن الأخبار الواردة فيها
أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال القرآن ونسخه بأخبار الأحاد)، وقد تقرر أن
القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكل ما لم يتواتر لا يكون قرآنا، كما هو المقرر عند
جماهير العلماء، وبنقد هذه الأدلة ينتفي معه دليل الوقوع".
ويشار إلى أن المتخصصين في علوم القرآن وتفسيره،
وجمهور الأصوليين – قديما وحديثا – يؤكدون وقوع النسخ في القرآن الكريم، الذي
يتعلق برفع أحكام شرعية ثبتت بآيات قرآنية، ثم نزلت آيات لاحقة فنسخت الآيات السابقة،
وهو ثلاثة أنواع: نسخ التلاوة والحكم معا، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ
التلاوة مع بقاء الحكم".