هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: روسيا الأوراسية كقوة عظمى- جيوبوليتيك الصراع ودبلوماسية النفط والغاز في الشرق الأوسط
الكاتب: د. وسيم خليل قلعجية
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، يونيو/حزيران 2019،
(عدد الصفحات 582 من القطع الكبير)
في عام 1973 عندما حدثت أزمة النفط التاريخية المعروفة في أعقاب حرب تشرين أول (أكتوبر)، وارتفعت أسعار النفط بصورة كبيرة مع شعور الدول الصناعية الكبرى وخاصة في أوروبا وأمريكا بإمكانية تحكّم الدول المنتجة بالأسعار أو بربط ذلك بالمواقف السياسية، كان الواضح أن هذه الحرب قد أخرجت العلاقات النفطية الدولية من حدود "اللعبة المحسوبة".
"الدم مقابل النفط"
حينها، قررت الولايات المتحدة الأمريكية التي تستهلك وحدها ربع إنتاج النفط العالمي، والتي يشكّل النفط عاملاً هاماً من عوامل قوتها ورخائها، قررت ألا تترك إمداداتها النفطية للظروف، وقررت أن تنشئ مخازن لحفظ احتياطي استراتيجي يكفيها 84 يوماً، وقد صدر قرار بذلك من الرئيس الأمريكي آنذاك "جيرالد فورد" عام 1975.
يقول الكاتب وسيم خليل قلعجية: "حاول هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية حينها، في العام 1974 بحث فكرة تكوين قوة أمريكية-أوروبية مشتركة لحماية مصادر النفط في الخليج العربي، إلا أن هذه الفكرة، رفضت في حينه، من قبل مسؤولين أوروبيين. مع وصول الرئيس جيمي كارتر إلى السلطة، بعثت فكرة تشكيل قوات تدخل سريع من جديد. وتم إعداد خطة في عهد الرئيس جيمي كارتر عام 1976 سميت خطة كارتر، وهي تقول: "إن أمريكا على استعداد للتدخل الفوري والمباشر عسكرياً في أي نقطة من العالم تمثّل تهديداً للنفط".
مع بداية الثمانينيات صُبغ أمن الطاقة بصبغة عسكرية مع الاستعداد لاستخدام القوة الصلدة Hard Power وسيلة لضمان الاستقرار في المناطق التي تنتج النفط والغاز الطبيعي. المثال الجلي على ذلك مبدأ الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الذي يعود إلى عام 1980 في رده على الاجتياح السوفييتي لأفغانستان في عام 1979 عندما صرح بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستستخدم أي وسيلة ضرورية بما في ذلك القوة العسكرية في الدفاع عن مصالحها الحيوية في الخليج العربي بما يضمن تدفق النفط. وقال الرئيس كارتر: "إن تهديد منابع النفط يعني مباشرة تهديد الأمن القومي الأمريكي، وإننا على استعداد لندفع الدم مقابل ضمان استمرار تدفق النفط".
شكل التدخل السوفييتي في أفغانستان يوم 27 كانون أول (ديسمبر) 1979، ومشاركته في الحرب الأفغانية، مؤشراً خطيراً على المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الأوسط والخليج العربي تحديداً.
هكذا تم تشكيل قوة الانتشار السريع من قبل الرئيس جيمي كارتر، وخصصت للعمل في مسرح العمليات المهمة في جنوب غربي آسيا. فاستناداً إلى "مبدأ كارتر" نصبت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها زعيمة لحماية مصالح العالم، وأعطت لنفسها حق حماية النفط العربي من منابعه خوفاً من التدخلات العسكرية السوفييتية في تلك الفترة. كما بدأت تتبلور سياسة أمريكية جديدة تجاه منطقة الخليج العربي ترتكز على تعزيز التواجد العسكري في هذه المنطقة، وعلى إيجاد قوة تدخل سريع يضمن استمرار تدفق النفط، وإلى استخدام القوة العسكرية لحماية المصالح الغربية عامة والأمريكية خاصة.
يقول الكاتب وسيم خليل قلعجية: "بعد ذلك، شكّل الرئيس رونالد ريغان قيادة مستقلة لهذه القوة سميت "السنت كوم" (Cent Com) وأعطي الأمر لها بمباشرة التخطيط والإعداد دون أن يخصص لها وحدات عسكرية خاصة. في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1982، أعلن البنتاغون عن تشكيل قيادة جديدة لحماية المصالح الأمريكية من أي تهديدات عسكرية في المنطقة الضخمة التي تمتد من الشرق الأوسط عبر الخليج العربي إلى المحيط الهندي وأسندت القيادة الجديدة إلى القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة واستقر أركان القيادة الجديدة في قاعدة "ماكديل" في فلوريدا، حيث بدأت القيادة الجديدة في ممارسة مهامها في 1 كانون الثاني (يناير) 1983".
حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على قواعدها العسكرية في معظم بلدان الخليج العربي والعراق
النفط والصراع الذي نشأ حوله من أجل الوصول إليه ونقله وتخزينه، يفسر الكثير من صناعة معادلات الصراع والحروب والانتشار العسكري الأمريكي والسياسي لضمان سلامة المنابع
لقد بدا أن كل ما تعلنه الولايات المتحدة الأمريكية من أنها تحارب الإرهاب ليس إلا حجة لموضوع النفط والهيمنة عليه. وحتى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) لم تكن سبباً لانتشار العدوان الأمريكي في دول الشرق الأوسط ومحاولات الهيمنة، بل هي فرصة استغلتها لإقناع الشعب الأمريكي (بدفع الدم) لصالح الآلة العسكرية والرأسمالية، ولمصلحة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الذي يسيطر على أجهزة الحكم. حتى وإن لم تعلن عن ذلك صراحة.
في الحرب العالمية الثانية كرست الولايات المتحدة الأمريكية نفسها قائدة للمعسكر الغربي بالمعنى السياسي ولقواه البحرية بالمعنى الجيوبوليتيكي، أما روسيا الاتحادية قائدة القوى البرية فقد اندرجت تحت عباءة الاتحاد السوفييتي لمواجهة القوى البحرية وزعيمتها الولايات المتحدة الأمريكية ليخوض قطبا الجيوبوليتيك الكوني صراع الحرب البرادة في القرن العشرين الذي ربحته القوى البحرية، كما ربحت صراع القرن التاسع عشر من قبله.
بوتين قيصر جديد ولحظة تاريخية فاصلة في الجيوبوليتيكا لروسيا الأوراسية
في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي في كانون الأول (ديسمبر) 1991 تحولت السياسة الخارجية الروسية، وعلى مدى عقد التسعينات من القرن الماضي تقريبا، توافقا أواستجابةً مع المواقف الأمريكية، وانسحبت روسيا من بعض المواقع التي كان وجودها فيها يمثل نوعاً من التحدّي الموجه للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني على حد سواء، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط. وفضلا عن ذلك، كانت روسيا من بين كثير من دول العالم التي حاولت استثمار أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 للتقارب مع الولايات المتحدة. فراحت تقدم نفسها على أنها الشريك والحليف الذي يعتمد عليه في محاربة ما يسمى الإرهاب، وفي سبيل ذلك قدمت روسيا تنازلات سياسية وأمنية وعسكرية في آسيا الوسطى، كان البعض يعتبرها إلى عهد قريب من المحرمات في السياسة الروسية.
بعد غياب طويل، تريد روسيا الآن أن يكون لها رأي في القضايا الرئيسية في الشرق الأوسط، لا سيما في ظل الأوضاع المتفجرة في الساحة السورية، والتهديد بالحرب ضد إيران، وطموحات إسرائيل التوسعية، وصعود الإسلام السياسي في العالم العربي، وهي القضايا التي باتت تشكل كابوساً للقيادة الروسية، نظراً لتداعياتها المباشرة على واقع روسيا.
فمن وجهة نظرموسكو، أصبح الشرق الأوسط على أبواب حدودها، ومع 20 مليون مسلم يعيشون في شمال القوقاز، باتت القيادة الروسية متمثلة في رجل روسيا القوي فلاديمير بوتين، ترى أن استقرار روسيا الداخلي مرتبط أشد الارتباط بالأحداث التي تهز العالم العربي منذ تفجر ربيع الثورات العربية في تونس في بداية سنة 2011، حيث أفسحت الثورات العربية في المجال للصعود القوي للأحزاب الإسلامية .
يعتقد المفكرون الأوراسيون أن الحكومة أولت أهمية أكبر للغرب في سياستها الخارجية، بينما وجهة روسيا الأوراسية هي نحو الشرق والجنوب، فأوراسيا هي جسر روسيا الاتحادية للبقاء على الهوية الحضارية وبالتالي فإن روسيا الاتحادية في مجالها الحيوي تستطيع التحرك بمرونة أكثر وتمتلك قدرة أكبر على التأثير، وذلك مع تحديد أولوليات سياستها الخارجية التي يجب أن تقلل اعتمادها على الغرب والقدرة على التأثير العالمي.
في عهد بوتين حققت روسيا نجاحات مذهلة على المستوى الاقتصادي، في بداية العام 2007، تمكّن الناتج المحلّي الإجمالي لروسيا من استعادة المستوى الذي كان قد بلغه في العام 1990. فبعد تراجع التسعينيات، شهدت البلاد ستّة أعوامٍ من النموّ، بمعدّل 6 % وسطيّاً كلّ سنة. وتُضاف إلى المنّة النفطيّة نجاحات في مجالات أخرى (تصنيع المعادن، الألمنيوم، صناعة الأسلحة، الصناعات الغذائية)، وارتفاع كبير في استهلاك العائلات، وتوفية الدين العام الخارجي (70 مليار دولار منذ العهد السوفييتي)، إضافة إلى مضاعفة نفقات التعليم وزيادة تلك للصحّة بمعدّل ثلاثة أضعاف، خلال خمسة أعوام. وتتوسّع بعض الشركات الروسية على الساحة الرأسمالية العابرة للأوطان، وسط دهشة عامّة.
وبعد تردّدٍ بين الليبرالية المتطرّفة والتوجّه المرتكز على الدولة، اختار الرئيس بوتين اللّجوء إلى تسوية من شأنها طمأنة كلّ من طبقة المالكين الجديدة والغرب: إعادة تأسيس الدولة وبسط سيادتها، وضبط الأوليغارشيين (مراكز القوى)، لكن مع احترام اقتصاد السوق.
وقد ظهر منعطف رئيسي في العام 2003، مع الولاية الثانية للرئيس بوتين، عندما عهد هذا الأخير إلى متعهّدين حكوميّين من اختياره بقطاع المحروقات المصيريّ، الذي جرت استعادته جزئيّاً من الأوليغارشيين الذين حصلوا عليه بـ "سعرٍ خاصٍّ للأصحاب"، بفضل عمليّات الخصخصة التي سادت في عهد سلفه يلتسين. فقد حمى بوتين الأملاك الإستراتيجية، أي الشركات الحكومية، المُختَلَطة أو الخاصّة، بما فيها تلك ذات الرساميل الأجنبية، التي يرعاها الكرملين على غرار "غازبروم" و"روسنفت" و"ترانسنفت" وشركة "سوتشي" الأولمبية المكلفة بتنظيم الألعاب الشتوية الأولمبية، وما تنفقه هذه الشركات هو أموال عامة، وما تجنيه هو أرباح خاصة.
لقد شكّل انهيار الاتحاد السوفييتي الكارثة الجغرافية العظمى في هذا القرن. بالنسبة للأمّة الروسية، كان ذلك مأساة فعلية"
إقرأ أيضا: نفط الشرق الأوسط جلب القوى الاستعمارية وحرك أطماعها