هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
انتهكت إسرائيل الأجواء السورية مئات المرات طوال سنيّ الأزمة السورية التسع العجاف، ضربت في مختلف المحافظات تقريبا، واستهدفت مواقع سورية وإيرانية، وأخرى تابعة لحزب الله من قوافل ومساعدات وكوادر، ضربت معسكرات للجيش ومطارات مدنية وعسكرية ومستودعات وقوافل ومراكز أبحاث وغيرها. في مرات محدودة، تلقت إسرائيل ردا محدودا، ولكن في معظم المرات، أفلتت بأفعالها من دون عقاب، بل ومن دون أية ردة فعل تتعدى التصريح والخطاب أو الشكوى لدى الأمم المتحدة.
في الأشهر الأخيرة، وسّعت إسرائيل نطاق انتهاكاتها، وطاولت العراق، البعيد نسبيا؛ ضربت مواقع للحشد الشعبي، قيل في وصفها في حينه، إنها «غارات مجهولة» أو «انفجارات غامضة»، ليتضح فيما بعد، أنها ضربات إسرائيلية، حرصت تل أبيب على تفادي إعلان مسؤوليتها عنها، تجنبا للحرج. العراق الرسمي لزم الصمت، والحيرة أطبقت على الحشد وشلت ردود أفعاله، وأفلتت إسرائيل بدورها من العقاب، مما سيشجعها على مواصلة توجيه ضربات من هذا النوع، كلما شعرت بالحاجة إلى ذلك، «فمن أمن العقاب أساء الأدب».
للانتهاكات الإسرائيلية للأجواء السورية والعراق «المبرر» ذاته: إسرائيل ستمنع حزب الله من الحصول على أسلحة كاسرة للتوازن. إسرائيل ستمنع إيران من الاحتفاظ بمراكز قوة في البلدين، وتحديدا في سوريا القريبة. لا أحد يحقق في صحة المزاعم الإسرائيلية، ولا أحد يكشف عن طبيعة الأهداف المستهدفة، وما إذا كانت تعود فعلا لحزب الله وإيران، أم لا، أم إن استهداف هذه المواقع يأتي من قبيل «إعادة بناء الصورة الردعية المتآكلة» للجيش الذي فقط أسطورته كجيش لا يقهر في أكثر من اختبار.
لكن المفارقة، أن حزب الله يعلن صبح مساء، وعلى لسان قائده الأول حسن نصر الله، أنه بات يمتلك مثل تلك الأسلحة «الكاسرة للتوازن»، وأن لديه من الصواريخ، في لبنان، ما يكفي لإصابة أي هدف يريده على امتداد الخريطة الإسرائيلية، وأنها باتت من الدقة بحيث صار بمقدورها إلحاق الأذى بأهداف إسرائيلية من طبيعة استراتيجية وحساسة، وهو ما تعترف به إسرائيل ذاتها، بل وأحيانا «تبالغ» في تصوير حجم ونوعية الترسانة الصاروخية والحربية، التي يتوفر عليها الحزب ولو من باب التحريض. ومع ذلك، لا نرى أية انتهاكات إسرائيلية جديدة للأجواء أو الأراضي اللبنانية، وفي المرات القليلة التي استهدفت فيها إسرائيل أهدافا لحزب الله في لبنان، رد عليها بعمليات فورية ومن الطبيعة ذاتها تقريبا.
وحتى حين تفكر إسرائيل بضرب حزب الله، فإنها تفعل ذلك على الأرض السورية، من دون أن تتجرأ على ملاحقة قوافله بعد عبورها الأراضي اللبنانية، الأمر الذي يثير السؤال مباشرة: لماذا تتجرأ إسرائيل على استهداف مواقع وأفراد وأسلحة للحزب في سوريا (والعراق كما تزعم)، لا تمتلك الجرأة ذاتها على ضربه في لبنان؟ أي بمعنى آخر، لماذا تتوقف العربدة الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية، ويترك لها الحبل على الغارب في ساحات أخرى؟
لم أجد جوابا على هذا السؤال أو تفسيرا لهذه الظاهرة، سوى أن إسرائيل تدرك تمام الإدراك أن أي عدوان على الحزب في لبنان، سيقابل برد فوري مساوٍ له في المقدار (ما أمكن)، فالحزب هنا، يمتلك قراره، بل ويمتلك قرار الحرب والسلم، فيما الحزب لا يمتلك قرار الرد بالمثل من على الأرض السورية أو العراقية، احتراما لتحالفاته والتزاما بمقتضيات صداقاته على أقل تقدير.
معنى ذلك أيضا، أن العربدة الإسرائيلية ليس لها سوى رافد واحد، ينبع من حالة الضعف والهوان التي تعيشها كثير من الدول العربية، وأنه في اللحظة التي تشعر فيها إسرائيل بأن عربدتها مكلفة، وأن رد الفعل آت لا ريب فيه، وليس «في الزمان والمكان اللذين تحددهما هذه الدولة أو تلك»، ستتوقف عن ممارسة غطرستها وعدوانها وعدم اكتراثها بسيادة الدول ومندرجات الشرعية الدولية.
شيء مشابه، يكاد يتشكل في قطاع غزة، مع تنامي قدرة الفصائل الفلسطينية المسلحة على توجيه ضربات انتقامية في حال تعرض القطاع للاعتداء والانتهاك، لكن القياس هنا مع الفارق؛ فالقدرة النارية والقتالية لفصائل غزة لا تقارن بما يتوفر لحزب الله، ومع ذلك نجد أن إسرائيل باتت مضطرة لأن تحسب حسابا لردود أفعال الفلسطينيين، ونقول «تحسب حسابا» ولا نقول إنها «توقفت» أو «ارتدعت»، لكن «سيناريو» كهذا، لم يعد خارج نطاق نظرية الاحتمالات، لاسيما أن تكنولوجيا السلاح باتت متوفرة للفقراء كذلك، ولم تعد حكرا على نادي الأثرياء فقط.
عن صحيفة الدستور الأردنية