منذ بداية العام 2011 وحتى اليوم والعالم العربي يموج بحالة من الغليان لا تنتهي، بل هي إلى التصعيد أقرب منها إلى الانتهاء؛ تتأرجح موجتها بين المد والجزر وبين الهبوط والصعود، في صراع دامٍ بين الموجة الأولى لثورات
الربيع العربي وبين الثورات المضادة. وبينما تقترب ذكرى المذبحة الكبرى في تاريخ مصر، والمعروفة بعملية فض ميداني رابعة والنهضة، فما زالت المجازر تتم يوميا على أيدي أولئك الذين تولوا كبر التصدي لثورات الكرامة العربية من استبداد دامَ عشرات الحقب.
ففي سوريا ما زالت السماء تمطر قنابل محرمة دوليا، وما زالت قوات التحالف تقذف الشعب اليمني الحر تأديبا له على ثورته المباغتة، والتي اقترب فيها من النصر لولا تدخل النظام السعودي المعادي لكل حركات التحرر العربي بأمواله التي حارب بها إرادة الشعوب العربية.
وفي مصر التي تحولت لسجن كبير؛ نجح الانقلاب في أن يثير تعاطف الشعب الذي كان ناقما على الحكم السابق ،ليستعيد الشعب وعيه تجاه الحكم العسكري بما يحمله من تاريخ دموي بدأ في العام 1952 بما سمي بحركة الضباط، والتي استبدلت الملك بثلاثة عشر ملكا؛ كل منهم يطمح لأن ينفرد بخيرات، البلاد لتجرّف مصر، ويكون النتاج الأسود سنوات من الحكم المشؤوم تتخلف فيها البلاد وتقبع تحت حكم استبدادي لم يخرجها منه إلا ثورة الخامس والعشرين من يناير العظيمة، ليعاود العسكر لعبته على الشعب ويعود في صورة أكثر بشاعة وأشد شراسة؛ تدفع البلاد فيها بكل فئاتها ثمن التشرذم والتفكك في مواجهة المؤامرة العسكرية لاستعادة الحكم من المدنيين.
لعبة المال والإعلام
لعب المال الخليجي دورا رئيسيا في إشعال جذوة
الثورة المضادة في بلاد الربيع العربي، بداية من الانقلاب على أول تجربة ديمقراطية في مصر وإغراء المنقلبين بالمال ومدهم به، كما كشفت تسريباتهم التي لم تنته منذ اليوم الأول لاستيلائهم على الحكم، ومرورا بالتحالف المدمر في اليمن الشقيق بحجة إعادة الشرعية والقضاء على الحوثيين؛ الذين صنعهم الرئيس السابق والذي قامت الثورة ضده على عبد الله صالح.. صنعهم ليعاونوه في محاربة شعبه، وإذا بالتحالف الذي يحاربهم لا يقوم بتوجيه آلياته إلا لأطفال ونساء اليمن، ويخرج مبررا جرائمه بأن تلك الأخطاء مصاحبة للحروب عادة، وكأن أطفال المسلمين بغير ثمن..
لم يكتف النظام السعودي بقيادة محمد بن سلمان والنظام الإماراتي بقيادة محمد بن زايد بتدمير اليمن وتجويعها ونشر الأوبئة فيه، وتضييع الثورة المصرية والتسبب في مقتل آلاف الأبرياء وتشتيت الآلاف وتغييب عشرات الألوف خلف السجون، وإنما امتدت تلك الأموال لتعبث بأمن ليبيا ولتصنع القلاقل في الغرب الجزائري الثائر، بمساعدة الجيش المصري الذي أصبح مليشيا تستأجر لمن يدفع الثمن.
وبمساعدة المال الخليجي، تم شراء عشرات الإعلاميين للمشاركة في هدم الثورة العربية المنتشرة في ربوع الوطن من المحيط إلى الخليج، فسلطت تلك الآلة الخطيرة، المرئية والمكتوبة، لتشوه الرئيس هنا والثوار هناك، وتمكن للقبضة الحديدية التي أعادت تنظيم ذاتها لتعود أقوى؛ ممتلكة كل الخيوط في أيديها، وكل المؤسسات التي كانت قد امتنعت عن أداء واجباتها المهنية والحقوقية والمجتمعية والوظيفية، والأموال اللازمة لإعادة ترتيب الأوراق وإصلاح الفساد وإحداث انفراجة نوعية للشعوب. وعملت الآلة الإعلامية على تزييف الحقائق، وتغيير وجهة الحدث ليخدم الدبابة ويغيب الوعي الشعبي بأوهام ووعود متناثرة يثبت كذبها يوما بعد يوم، لتسوء حياة الإنسان البسيط، ويطال الفساد الجميع فيخفت الأمل في مستقبل أفضل، وتهدأ غضبة الربيع أمام آلة القتل الوحشي في كل بلادنا المنتفضة.
وها هي الذكرى التاسعة للثورة تقترب، بينما يظهر في الأفق نور جديد، يشع من الجزائر، والسودان، وليبيا، ليحاصر الثورة المضادة بعدما ظنت أن الأمور قد هدأت، وأن الأرض قد دانت لها وخضعت.
الغضبة الثورية تجتاح ملايين العرب
بعد كل تلك المليارات التي أنفقها
الإنقلابيون، وبعد كل تلك الجرائم التي قاموا بها لتجريف البلاد وإفقار العباد، من بيع وتنازل عن الأرض ومقدرات الوطن، وبعد كل تلك الأنفس التي أزهقت، هل نجحت الثورة المضادة في مساعيها التي قامت من أجلها؟ هل استطاعت أن تنسي الشعوب ثورتها الأولى، بدءا من يناير 2011 وحتى اليوم؟ هل استطاعوا أن يثبتوا أركان ملكهم وحكمهم وأن تستتب الأمور لهم؟ إن الأحداث الجارية اليوم لهي خير شاهد على فشل الثورة المضادة فشلا ذريعا في الهدف الذي قامت من أجله، وهو القضاء على حلم الحرية والتمكين للمستبدين فوق رقاب الشعوب.
فها هو مطار أبها السعودي يتعرض للقصف شبه اليومي، ليتم إغلاقه تماما أمام الملاحة الجوية. لقد انقلب السحر على الساحر، واتخذت المملكة دور الدفاع بعد حرب الإبادة التي شنتها على اليمن وشعبها. فلقد ورط ولي العهد بلاده وأدخلها في أتون حرب لا قبل له بها؛ حين قضى بأمواله على حلم شعب دفع ثمن حريته بدم أبنائه، وحارب السنّة بحجة محاربة الإرهاب تارة وإيران تارة، ليجد نفسه مضطرا لاستجداء العالم للدفاع عنه، بينما ينظر إليه الوكيل الأمريكي على أنه مجرد بقرة حلوب يستنزفها وقتما يريد.
لقد كان حريا بهؤلاء الأمراء أن يتحالفوا مع الثورة الوليدة فتكون لهم درعا، ويتحالفوا مع اليمن فيكون لهم عمقا استراتيجيا، لكنهم أبوا إلا استعداء الشعوب في كبر، ليجدوا أنفسهم هم المحاصرون في النهاية ولا طريق للعودة بعد الدماء التي أهدروها والعداءات التي صنعوها.
لقد دمر ولي العهد السعودي ملك آبائه، ووضع ولي العهد الإماراتي بلاده رهن صاروخ حوثي يدمر مستقبلها، بعدما صارت مياه الخليج غير آمنة للسفن العابرة بإمارة دبي وموانئها المعدودة. لقد صار المعتدي محاصرا بغوغائيته ورعونته وقراراته الصبيانية؛ التي حولت المنطقة لساحة مائجة بالحرب العالمية التي يتأهب لها العالم متخذا بلادنا لها مسرحا.
وها هو النظام المصري يكتسب عداء شعبه بعد أن أعلن حربه على كل الأطراف، وبعدما فقد ثقته في رفقاء الانقلاب جميعا، فتحفظ على بعضهم وحدد إقامة البعض الآخر، فيحاصره شعبه بحالة احتقان واضحة للعيان؛ لا أجد لها مصيرا إلا الثورة العارمة، والتي دق ناقوسها واقتربت إرهاصاتها في وسائل المواصلات والمنتديات العامة والتجمعات بكل أنواعها، والتي يلاحقها الجهاز الأمني بكل السبل القمعية المعروفة وغير المعروفة.
وها هي الثورة الجزائرية تصر على الوصول لآخر الطريق، فلا يمل الشعب ولا يكل، متعلما من كافة التجارب السابقة لإخوانه في الأقطار الأخرى، ولا تسحقه السلمية الصامتة فيهدأ ولو في فعالية واحدة، ولا يخسر جيشه، ولا ينخدع به.. وها هي الثورة السودانية رغم تعثراتها لا تسمح بانفراد عسكري بالمشهد، ويصر السوداني على خوض التجربة للنهاية دون حمل سلاح، ودون تهاون أو رجوع.. وها هي ليبيا رغم اجتماع المال الخليجي من جديد مدعما اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وممدا إياه بالسلاح والجنود المرتزقة، لكن يقظة أحرار ليبيا تقف لهم بالمرصاد.. وتقف الثورة المضادة أمام حائط مسدود، وطريق ليس منه منفذ للعبور ولا توجد فرصة فيه للرجوع، ولن يستمر الوضع طويلا حتي تنطلق انتفاضة كبري يجبر فيها الثوار الغرب على إعادة ترتيب أوراقه بما يتوافق مع مصالح تلك الشعوب التي انتهكت طويلا.
إن ثورة مصر رغم دعم العالم للانقلاب حرصا على مصالحه، لا يقف حائلا بينها وبين نجاحها إلا أن يلتحم الشعب بكل طوائفه ليجبر كل الأطراف على الاصطفاف حوله هو، وليس حول حزب أو هيئة أو مؤسسة أيا كانت. وإن ثورة ليبيا ليس بينها وبين النجاح إلا أن تنجح الثورة المصرية؛ فتقف حائلا بين خائنها الذي يستمد بقاءه من دعم انقلابيي مصر، وثورة سوريا ليس بينها وبين النجاح إلا أن يستقوي العرب والمسلمون ببعضهم البعض، بمن فيهم إيران التي مرغت أنف أمريكا ونجحت في أن تكون لها ندا، فيصيروا قوة مهابة تحدد توجه العالم وفق مصالحهم ومستقبل بلادهم، وليس لاعتباراته هو.
لم يعد أمام العرب والمسلمين فرصة للتشرذم، ولم يعد أمامهم فرصة للانقسام، ولم يعودوا يملكون رفاهية الاختلاف.. ليس أمام تلك الشعوب إلا أن تتعلم وتتقن الدرس، وأجدها في الطريق لتقدم تجربة مكتملة، وثورة ممتدة حتى تحقق كل شروطها، بعدما فشلت الثورة المضادة في تحقيق ما كانت تصبو إليه، وتقف على مشارف إعلان الهزيمة المنكرة، بل وحفرت قبرها بيدها.. ستفعلها الشعوب المسلمة حتما ولو بعد حين.