هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
فيما الأنباء عن المحادثات الأمريكية – «الطالبانية»، تتحدث عن إنجاز تقدم كبير، أو «اختراق» غير مسبوق، تنجز القوات الأمريكية استعداداتها الأخيرة للانسحاب من أفغانستان، هذا ما أكده مايك بومبيو، وهذا ما يبدو أن الوفد الطالباني المفاوض على ثقة من حصوله. وفي التفاصيل أن نصف القوات المرابطة على أرض تلك البلاد، قد تعود لموطنها قبل الانتخابات الرئاسية القادمة، على أن تلتزم واشنطن بجداول زمنية محددة لإتمام انسحاب النصف الثاني من قواتها المنتشرة هناك منذ العام 2001، استجابة لشرط «طالباني» بإنجاز الانسحاب الأمريكي أولا قبل البدء، ومن أجل البدء بحوارات مع حكومة أشرف غني، وعلى مائدة حوار تضم مختلف الأطراف الأفغانية، وليس الحكومة وحدها.
طالبان، وليس واشنطن، هي من يجلس في موقع من يملي شروطه على الآخر، هذا أمرٌ يحدث لأول مرة في التاريخ: الدولة الأعظم تفاوض منظمة إرهابية وتخضع لشروطها. أما التخلي عن حلفاء واشنطن من الأفغان، فليس في الأمر جديد يذكر، إذ طالما امتهنت الولايات المتحدة بإدارتها الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، عادة التخلي عن الحلفاء والأصدقاء عند أول فرصة تلوح لها، تحقيقا لغرض أو صونا لمصلحة.
واشنطن التي تقيم الدنيا ولا تقعدها ضد «إرهاب» حماس وحزب الله والفصائل الفلسطيني والحشد الشعبي والحوثي، تلتزم صمت القبور حين يتعلق الأمر بهوية وتصنيف مفاوضيها من الأفغان. هل ثمة «معايير مزدوجة» أكثر من هذه؟ واشنطن تتهم فصيلا كحزب الله بقتل أمريكيين، فهل قَتل حزب الله من الأمريكيين أكثر مما فعلت طالبان خلال العقدين الأخيرين؟ أليست طالبان شريكا متواطئا في الهجوم الأخطر على الأرض الأمريكية منذ بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية؟
هي القوة، قوة طالبان هذه المرة، قوة منظمة «لا دولاتية/ «Non- State Actor، التي جعلت ترامب شخصيا يأمر إدارته: انهوا هذه الحروب التي لا تنتهي»، وليس المهم كيف؛ طالما أن الأمر سيتم بسرعة. ليس مصائر الحلفاء ومستقبلاتهم مهمة لإدارة ترامب، طالما أن واشنطن سئمت النزف والاستنزاف أمام رجال مصممين، وحرب عصابات طويلة الأمد، مكلفة جدا للدولة الأعظم، وتكاد تكون بلا كلفة على من يشنها.
( 2)
بعيدا عن أفغانستان، في كوريا الشمالية، تنفرد واشنطن عن بقية دول العالم في الامتناع عن إدانة التجارب الصاروخية الأخيرة للزعيم كيم جونغ أون، بل وينبري صقور الإدارة أنفسهم، الذين اعتدنا رؤيتهم «أسودا» في ساحات أخرى، للدفاع عن «رجل الصواريخ الصغير»، والتأكيد أنه لم يخرق الاتفاقات والتفاهمات، وأن تجاربه غير مقلقة ولا ينبغي أن تؤثر على مسار المحادثات المتعثرة أصلا بين بيونغ يانغ وواشنطن.
مرة أخرى، القوة هنا تتحدث بلسان مبين، صلابة «الزعيم القصير» وصلفه، واستناده إلى «القوة النووية والصاروخية» تجعلان واشنطن شديدة المرونة حياله، حتى وإن أسالت تجاربه الصاروخية «الأدرينالين» في عروق الحليفين الياباني والكوري الجنوبي. لا قيمة للحلفاء، دعوهم يقلعون أشواكهم بأيديهم، طالما أن واشنطن في مأمن، وفرص التوصل إلى اتفاق مع الرجل المدجج بالصواريخ والنووي، ما زالت قائمة.
(3)
إيران مثال ثالث، إذ لولا إدراك واشنطن لكلف الحرب الباهظة مع «نظامها الشرير» لما توانت عن ضربها فورا، ولما مررت سلسلة من الضربات الإيرانية المباشرة ضد الناقلات والطائرات من غير طائرات أمريكية الصنع والملكية، أو غير مباشرة، عبر الحليف الحوثي الذي بات يعربد في سماء عدن.
إيران، كما كوريا الشمالية، تلقت تعهدات أمريكية صارمة بعدم تجريب محاولة إسقاط النظام السياسي القائم، ووعودا لا يأتيها الباطل عن يمين أو شمال، بالرخاء والازدهار، إن هي جنحت للتفاوض والحلول الدبلوماسية.
هذا السلوك الأمريكي «الناعم» و«المرن»، الانسحابي والمتراجع، لا نراه على ساحات الأزمات العربية المفتوحة، بل نرى نقيضه، لاسيما في فلسطين، حيث العربدة والغطرسة هما سيدتا الموقف. هنا، في هذه الحالة العربية، الضعف والهوان، وهناك في التجارب الثلاثة، على اختلافها والاختلاف معها، تتضاءل غطرسة واشنطن ليحل محلها قدر هائل من «التواضع»، وتجنح واشنطن لخيارات الأطراف الأخرى، بل وتبدي انهزامية واضحة في التصدي للتهديدات الماثلة في سلوك أنظمة هذه الدول وحكوماتها.
والحقيقة أن درس طالبان، يمكن أن يكون ملهما لعشرات اللاعبين «اللا – دولاتيين» في المنطقة، من حزب الله إلى حماس، مرورا بالحوثي والحشد الشعبي. في الأزمة الراهنة، بات هذا النمط من اللاعبين، قادرا على الحصول على أسلحة رخيصة جدا، ولكنها «كاسرة للتوازنات» في الوقت ذاته، وحكومات عصرنا الحديث، ما عادت قادرة على احتكار «السلاح» و«الإعلام» أو غيرهما من عناصر القوة المحتكرة تاريخيا في أيدي الحكومات، وبين أيديها وحدها دون سواها.
أما درس كوريا الشمالية، فمناسب جداًلإيران، ولا شك أنها تستلهم بعضا من دروسه الثمينة لإدارة مواجهتها مع الولايات المتحدة، كما أنه درس ثمين لبعض من الدول العربية، التي تعتقد أن لا بديل عن صداقة واشنطن سوى التحالف معها، ومن دون إدراك كافٍ حتى الآن على الأقل، لكلف وصداقة واشنطن والتحالف معها، التي قد تكون في كثير من الأحيان، وليس بعضها فحسب، أعلى بكثير من كلف عداوتها والاشتباك معها.
عن صحيفة الدستور الأردنية