ناقشنا في مقالنا السابق عقوبة
الزنى في
القرآن الكريم، وانتهينا إلى
حقيقة شرعية هي: أنه لا يوجد نص قرآني يتحدث عن عقوبة
الرجم تلميحا أو تصريحا، بل
كل العقوبات التي ذكرت تدور بين الحبس والإيذاء القولي، والجلد مئة جلدة يستوي في
ذلك المحصن وغير المحصن. ولكن القائلين بالرجم زعموا أن هناك آية وردت في القرآن،
نسخت تلاوة، وبقيت حكما، وسوف أنقل مجمل الروايات التي ورد فيها ذكر آية الرجم في
كتب السنة المطهرة، تاركا بقيتها وتفاصيلها لمواضعها لمن أراد، لنقف على سند
النصوص وفقهها ومناقشتها، بما يتناسب مع المقام هنا، فقد ورد ذلك عن عمر بن الخطاب
وعلي بن أبي طالب وبعض الصحابة رضي الله عنهم جميعا.
ما
ورد عن عمر وعلي في آية الرجم:
هناك
نصوص وردت عن عمر وعلي رضي الله عنهما، تتحدث عن وجود آية عن الرجم، لكن بلا صيغة،
ونصوص أخرى وردت بالنص على صيغة آية الرجم وعباراتها، أما التي بلا صيغة فمثل:
عن
ابن عباس قال قال عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم،
وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأنا بها، وعقلناها،
ووعيناها، فأخشى أن يطول بالناس عهد فيقولوا: إنا لا نجد آية الرجم، فتترك فريضة
أنزلها الله تعالى، وإن الرجم في كتاب الله تعالى حق على من زنى إذا أحصن من
الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف"(1).
وورد
كذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قوله: إن الرجم سنة من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقد كانت نزلت آية الرجم فهلك من كان يقرؤها، وآيا من القرآن
باليمامة(2).
وفي
مرويات الشيعة: "عن علي رضي الله عنه، قال: الرجم في القرآن، قول الله عز
وجل: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، فإنهما قضيا الشهوة"(3). وورد
كذلك عن صحابة آخرين غير عمر وعلي رضي الله عنهما، لا تختلف الروايات عما ذكر
عنهما.
نص
آية الرجم:
أما
الروايات التي ذكرت نص صيغة آية الرجم، فهي: عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله
عنه: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول القائل: ما نجد الرجم في كتاب الله عز
وجل. فيضفوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل، إلا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل
وقامت البينة، أو كان الحمل، أو الاعتراف، فقد قرأناها: "الشيخ والشيخة
فارجموهما البتة". وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده (4).
وعن
كثير بن الصلت قال: كنا عند مروان وفينا زيد بن ثابت، قال زيد: كنا نقرأ:
"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". قال: فقال مروان: أفلا نجعله
في المصحف؟ قال: لا، ألا ترى الشابين الثيبين يرجمان؟ قال: وقال: ذكروا ذلك وفينا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أنا أشفيكم من ذاك. قال: قلنا: كيف؟ قال: آتي
النبي صلى الله عليه وسلم فأذكر كذا وكذا، فإذا ذكر الرجم أقول: يا رسول الله، أكتبني
آية الرجم. قال: فأتيته فذكرته. قال: فذكر آية الرجم. قال: فقال: يا رسول الله، أكتبني
آية الرجم. قال: "لا أستطيع ذاك"(5).
والعجيب
أن الإمام البيهقي بعد رواية هذين الحديثين قال: "في هذا وما قبله دلالة على
أن آية الرجم حكمها ثابت، وتلاوتها منسوخة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا"(6).
وقفات
حول ما زعم أنه آية الرجم:
وأود
أن أقف هنا مع ما زعم في هذ الروايات أنه آية الرجم تحديدا، ثم نقف وقفة أخرى في
مقال آخر عما زعم بأن هناك آيات نسخت تلاوة وبقيت حكما، أو نسخت تلاوة بالأساس.
1- لقد
اختلف العلماء والأصوليون حول ما سمي بآية الرجم، وهل يثبت أم لا؟ وعلى رأس هؤلاء
الإمام القرافي إذ يقول: "إن ذلك لم يكن قرآنا، ويدل عليه: أن عمر رضي الله
عنه قال: "لولا أن يقول الناس: إن عمر زاد في كتاب الله شيئا، لألحقت ذلك
بالمصحف"، ولو كان ذلك قرآنا في الحال، أو كان ثم نُسخ، لما قال ذلك"(7).
ولذلك رأينا الإمام البخاري يروي حديث عمر، ولا يروي نص الآية المزعومة، والتي
تبدأ بالشيخ والشيخة. قال الحافظ ابن حجر: "ولعل البخاري تركها عمدا"(8).
2- في
إحدى الروايات أن عمر رضي الله عنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يكتبها، فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكره كتابة آية أنزلت عليه؟!
3- نص
الآية المزعومة منه ما يخالف أسلوب القرآن، قال الله تعالى: " الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" (النور: 2) قال العلماء: قدمت الزانية في
الذكر للإشارة إلى أن الزنى منها أشد قبحا، ولأن الزنى في النساء كان فاشيا عند
العرب. لكن إذا قرأت: الشيخ والشيخة إذا زنيا، وجدت الزاني مقدما في الذكر، على
خلاف الآية، وهذا يقتضي أن تقديم أحدهما كان مصادفة، لا لحكمة، وهذا لا يجوز؛ لأن
من المقرر والمعلوم: أن ألفاظ القرآن الكريم، موضوعه وضعا حكيما، بحيث لو قدم
أحدهما عن موضعه، أو أخر، اختل نظام الآية.
4- أن
تلك الجمل التي كانت من القرآن فيما قيل، جاءت مقتطعة، لا رابط يربطها بآيات
القرآن الكريم. ولم يقولوا لنا: أين كان موقعها من المصحف الشريف؟ فرواية تقول
إنها كانت في سورة النور، وأخرى تقول البقرة.
5- تقرر
في علم الأصول أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وما لم يتواتر، لا يكون قرآنا
والكلمات التي قيل بقرآنيتها، ليست بمتواترة، فهي شاذة، والشاذ ليس بقرآن، ولا
تجوز تلاوته(9).
6- للقرآن
الكريم ألفاظه العالية الرفعية، التي تشعر فيها بروعة اللغة، وجلال العبارات،
واتساقها مع حقائق القرآن ومعانيه، ولكل معنى ألفاظه، ولكل مقام مقال. ولذا في ما
سمي بآية الرجم؛ هناك عبارات لا تتسق أبدا مع فصاحة وأسلوب القرآن المعروفة.
فلفظ
"الشيخة" تستشعر منه الآذان عند سماعه كزازة وجفوة، ولم نعلم أن القرآن
الكريم استعمل هذه اللفظة "الشيخة" وصفا للمرأة المحصنة قط على أي معنى
من معاني الإحصان، ولا بمعنى الثيوبة، ولا بمعنى تصاعد السن ومقاربة الهرم، ولا
جاء متواردا بين العفة والحرية أو التزوج.
بل
لم نعلمه مستعملا بمعنى الإحصان في لغة العرب، بل لا نعلمه مستعملا للمرأة العجوز
المشرفة على الهرم، بل أكثر من ذلك لم نعلمه مستعملا وصفا للمرأة بأحد هذه المعاني
في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم(10).
بل
ترك القرآن الكريم لفظ "الشيخة" فلم يستعملها وصفا للمرأة مطلقا (فيما
نعلم) بَلْه وصفا لها بمعنى المحصنة، أي سبق لها أن تزوجت، سواء أكان زوجها قائما
أم ثيّبا بموت زوجها أو طلاقها منه، لكزازة لفظها وعدم مواءمته لنسق القرآن، ولطف
ملاءمته، واتساق ألفاظه مع رونق معانيه، فإنه استعمل في مكانها بالمعنى المقصود
لفظ "مُحصَّنة" أو "مُحصِّنة" و"مُحْصَنة"، وفي كل
ذلك لمحٌ لمعنى العفة والعفاف والتعفف(11).
أما
قول عمر رضي الله عنه: "لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في
آخر القرآن" فمعارض بما جاء في حديث أبي بن كعب عند النسائي والحاكم من قوله:
"ولقد كان فيها (أي في سورة الأحزاب") آية الرجم (الشيخ
والشيخة...)" لأنها إذا كانت موجودة في سورة الأحزاب" فكيف لم يعرفها
عمر مكتوبة فيها، ويقول: "لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها
في آخر القرآن"؟
فظاهر
قوله: "لولا أن يقول الناس... الخ" أن كتابتها جائزة، وإنما منع قول
الناس، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون
ثابتة؛ لأن هذا شأن المكتوب. وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر رضي الله
عنه ولم يعرج على مقال الناس؛ لأن مقال الناس لا يصلح مانعا(12).
وفي
رواية عنه: قد قرأناها: الشيخ والشيخة"، وهذا يدل على أن الذين قرأوها جماعة،
فأين ذهبت؟! وكيف يخشى عمر بن الخطاب قالة الناس (وهو من هو في قوة الدين، وشدة
الشكيمة، وصلابة الشوكة، ومضاء العزيمة، وشدة البأس) في أمر يجب عليه أن يقوم به،
ولو كان في ذلك حتفه، وجميع مواقف عمر في الإسلام تشهد بأن هذا بعيد جدا عن خلائقه
وأخلاقه.
أما
الزيادة التي في بعض الروايات (بما قضيا من اللذة) وهذه زيادة لا وجه لذكرها؛ لأن
قضاء اللذة ليس خاصا بالشيخ والشيخة، فهي زيادة تشير إلى ضعف الرواية، كما أن هذه
الزيادة (بما قضيا من اللذة) إلى جانب أنها لفظة لم تعهد في ألفاظ القرآن
واستعمالاته، فسبيلها سبيل لفظَي "الشيخ والشيخة"، كما أنها بعيدة عن
مواقعة الأدب اللفظي والمعنوي(13).
بل
ما ذكر على أنه آية الرجم، أو آيات نزلت ونسخت تلاوة وبقيت حكما، يتنافى بشدة مع
الثابت الصحيح: أن القرآن هو ما بين اللوحين، فقد سئل عبد الله بن عباس رضي الله
عنه: أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. وسئل
محمد بن الحنفية، فأجاب: ما ترك إلا ما بين الدفتين"(14). بل سئل علي بن أبي
طالب رضي الله عنه فقال: "ما عندنا إلا كتاب الله، وما في هذه
الصحيفة"(15). وراوي الحديث هنا هو علي الذي نسبت إليه رواية "آية الرجم".
رأينا
بعد هذا النقاش الموجز أن ادعاء وجود آية تسمى "آية الرجم"، فهو كلام
ينطوي على مغالطات أصولية وثوابت كبيرة، من حيث ثبوت هذه الآية، ومن حيث دلالتها.
وبقي أن نناقش نقطة مهمة تتعلق بالموضوع، وهو: هل توجد آيات كانت موجودة في
القرآن، وتتلى، ثم نسخت تلاوتها وأزيلت عباراتها من القرآن الكريم، وهو ما يسمى في
كتب "علوم القرآن" بـ"منسوخ التلاوة". هذا ما نبينه في مقالنا
القادم إن شاء الله.
__________
الهوامش:
1- رواه
أحمد (276) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين (1/378).
2-رواه
أحمد (1/143) برقم (1210) عن الشعبي، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف لضعف مجالد،
وهو ابن سعيد، وفي الخبر ألفاظ منكرة، انظر: مسند أحمد (2/287،286).
3- انظر:
تفصيل وسائل الشيعة للحر العاملي (28/62).
4- رواه
البيهقي في السنن الكبرى (16993) والصغرى (3265) والنسائي في الكبرى (7156) وابن
ماجة (2253). ورواه البخاري (6829) ومسلم (1691) دون عبارة: الشيخ والشيخة.
5- رواه
البيهقي في السنن الكبرى (16995) والطيالسي (615) وأحمد (21596) والنسائي في
الكبرى (7145) وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة: هذا إسناد رواته ثقات
(8/142). وقال محققو مسند أحمد: رجاله ثقات رجال الشيخين غير كثير بن الصلت، فقد
روى له النسائي، وهو ثقة (35/473).
6- انظر:
السنن الكبرى للبيهقي (17/150).
7- انظر:
نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي (6/2490).
8- انظر:
فتح الباري لابن حجر (12/143).
9- انظر:
ذوق الحلاوة ص: 15-20. بتصرف شديد.
10- انظر: محمد رسول الله لمحمد الصادق عرجون (4/111،110).
11- انظر: المصدر السابق (4/113).
12- انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/36).
13- انظر: محمد رسول الله لمحمد الصادق عرجون (4/119،118).
14- رواه البخاري (5019).
15- رواه البخاري (1771).
[email protected]