هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعتبر دول المغرب الكبير تاريخيا منطقة نفوذ فرنسية في أغلبها، بالنظر إلى طول الفترة الاستعمارية التي ربطت باريس بهذه الدول. ومثلت اللغة الفرنسية ابان مرحلة الاستعمار لغة التخاطب الرسمية بين السلطات الاستعمارية ومواطني تلك الدول.
ولما استقلت هذه الدول بعد عقود من الصراع، بقيت العلاقات وطيدة بينها وبين فرنسا، وظلت اللغة الفرنسية اللغة الثانية في أغلب هذه الدول من حيث الاستعمال الرسمي، لكنها لغة العلم والاقتصاد والتخاطب الدولي.
ولأن اللغة ليست كيانا جامدا، فقد شهدت تطورات كبيرة، فتقدمت لغات وتراجعت أخرى، في سياق التدافع الحضاري والثقافي الذي عرفته البشرية، وهكذا احتلت اللغة الأنجليزية صدارة لغات العالم، باعتبارها لغة العلم والسياسة والاقتصاد.
الباحث المغربي الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وكبير الباحثين في الوحدة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، والعضو السابق في لجنة الخبراء في الأمم المتحدة، زار العاصمة الفرنسية باريس مؤخرا في سياق ندوة علمية دولية عن الدولة الحديثة في الشرق الأوسط، وسجل في مقال خاص لـ "عربي21"، تراجع مكانة اللغة الفرنسية لدى الفرانكفونيين أنفسهم، فضلا عن بقية منطاق العتلم، وتساءل عما إذا كانت دول المغرب الكبير في وارد مراجعة مواقفهم تجاه اللغة الفرنسية، التي لا تزال الأهم في معظم تلك الدول.
مدينة فرنسية بامتياز
أزور مدينة الأنوار مرّتين بفارق سبعة أشهر بين كانون أول (ديسمبر ) وحزيران (يوليو)، وتشدّ انتباهي أكثر من مفارقة سياسية وثقافية في مدينة تعتدّ بأنّها فرنسية بامتياز.
أوّلا، هو فصل صيف باردٌ سياسيا ومزدهرٌ سياحيا على الطريقة الباريسية وسط انشغال حكومة ماكرون بالتّنافس مع الألمان في انتخاب رؤساء البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي ومحاولة ثني طهران عن خططها لتخصيب اليورانيوم وبرنامجها النووي، على خلاف فصل الشتاء الملتهب بحماسة المحتجّين من ذوي الصّدريات الصفراء.
وجدتُ نفسي في أكثر من سبت في كانون أول (ديسمبر) الماضي وسط تجّمعاتهم الاحتجاجية أمام الأكاديمية الوطنية للموسيقى وسط باريس، أحاور بعض قادتهم من حملة الشّعارات واللاّفتات والرّموز المثيرة، وأتأمّل مغزاها وما قد تضيفه إلى أدبيات النضال الثوري ونظريات الحركات الاجتماعية. حكومة ماكرون تعاني حاليا الأرق السياسي في رحلة الشتاء والصيف، تضعف في الدّاخل فتتقوّى في الخارج بتحالفها مع حكومة ميركل في أكثر من قضية دولية!
ثانيا، داخل قاعة الندوة حيث اجتمعنا في Ecole Normale Supérieure إحدى المؤسّسات الأكاديمية العريقة التي بلورت فلسفة التنوير منذ تأسيسها عام 1794 عقب الثورة الفرنسية، تأخدك لحظة التأمّل بعيدا إلى حدّ تخيّل إيميل دوركايم وهو يفسّر الفرق بين "التضامن العضوي" و"التضامن الميكانيكي" في سوسيولوجيا المجموعة البشرية، أو جون بول سارتر وهو يستشفّ من دخان سيجارته نشوة التّرافع عن أحقّية الفكر الوجودي بين تيارات الفلسفة المعاصرة. وقد يصل إلى مسمعك صدى ميشيل فوكو وهو يجادل من أجل التمرّد على البنيوية وهدم أعمدة القوة وتمادي السلطوية المؤسّساتية في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي، أو بيير بورديو وهو يتحدّث عن تفرّعات الرأسمال الاجتماعي إلى رأسمال ثقافي وآخر رمزي. وقد تتخيّل أيضا جاك ديريدا يحاضر حول أهمية التحليل السيميائي ووضع اللبنة الأساسية للنسق التفكيكي.
في هذه القاعة يستمر النقاش لساعات بيننا، بين عشرة باحثين مدعوين من أمريكا وأوروبا والدول العربية، لمناقشة مشروع بحثي جديد "البحث المُراوِغ عن دولة حديثة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". نتبادل تصوراتنا حول المنهجية الأفضل لتفكيك عوامل التحوّل العربي وتركيب رؤية استشرافية لمآل الانتفاضات العربية وتنافس التيارات الليبرالية والإسلاموية والسلطوية العسكرية. الجميع يتحدّث باللغة الانجليزية، ولا أحد يدافع عن أولوية الفرنسية حتى من قبل المشاركين الباريسيين. وعلى رفّ المنشورات الجديدة خارج القاعة، نسخ انجليزية وفرنسية لدراسات جديدة تم إنجازها حول قضايا فرنسية ودولية.
ثالثا في الفندق، تباشرك موظفة الاستقبال بالتحية، وعلى شفتيها مسافة قصيرة جدا بين “Oui, Monsieur” و “Yes, Sir”. وحيثما جلست في مقهى أو مطعم مثل Coco في منطقة الأوبرا أو Le Bistrot des Campagnes في مونبراناس، يتوسّم النادل أو النادلة في محيّاك أنك أجنبي، فيخاطبونك بالإنجليزية إلى أن تثبت لهم أنك تتقن الفرنسية.
وخلال الجولة العابرة بين دور بيع الكتب في Boulevard Saint-Michel، يستوقفك ازدياد عدد الكتب الصادرة بالإنجليزية إلى جانب تلك التي تم نشرها بالفرنسية. خلال الندوة، أبلغني Gilles Keppel أنه أنهى الترتيبات مع دار نشر جامعة برنستون الأمريكية لنشر الترجمة الانجليزية لكتابه الجديد Sortir du chaos: Les crises en Méditerranée et au Moyen-Orient خلال أقل من عام. قبل خمس سنوات، لم ينتبه الباحثون والقراء في العالم لكتاب توماس بيكيتي "الرأسمال في القرن الحادي والعشرين" إلاّ بعد أن أصدرت دار نشر جامعة هارفارد النسخة الإنجليزية يوم 18 آذار (مارس) 2014.
هي مدينة لم تعد تتمسّك بلغتها وهويتها الفرنسية الخالصة بقدر ما تريد أن تكون مدينة عالمية بروح أنجلوساكسونية. هنا يتكشف تراجع المدّ الفرنكفوني في الداخل قبل الخارج، ولم يعد الكتاب والمثقفون الفرنسيون يؤمنون أن النشر بالفرنسية وحدها هو الجسر إلى العالمية. تعود بي الذاكرة إلى سنواتي الأولى في الجامعة وإلى السجالات بيننا عندما لوّح البعض منّا ب"تفوّق" Les francophones على Les Arabophones، وأنّ "المستقبل" للفرنكفونية!
تذكّرت أيضا عندما وقف أحد المشاركين في ندوة المعهد المغربي لتحليل السياسات في الرباط في كانون ثاني (يناير) الماضي "يهنّئ" المنظّمين على تصميم لافتة الندوة "باللغتين العربية والإنجليزية، وليس الفرنسية". لم أقبل وقتها هذا الإقصاء المفتعل للفرنسية في الرّباط ولا في منطقة أخرى لإيماني بأهمية أن يكون المرء حيوانا لغويا وثقافيا منفتح الذهن إنْ كان يريد أن ينجح كحيوان سياسي واستراتيجي ونحن في زمن "ما بعد العولمة"، عبارة أتبنّاها حتى تتفتّق مخيلتنا المعرفية بعبارة أكثر دقّة.
في عمق القارة الأوروبية، تراجعت الفرنسية لغة وثقافة أمام الإنجليزية والألمانية. وتُظهر بعض الاحصائيات الجديدة أن نسبة 41 في المائة من الأوروبيين يتحدثون الانجليزية، وأن نسبة 19 في المائة منهم يتحدثون بالفرنسية. وتوصلت المنظمة الدولية للفرنكفونية في دراسة جديدة إلى أن الناطقين بالفرنسية وصل إلى 274 مليون شخص في العالم عام 2014 بزيادة نسبة 25 في المائة عما كان عليه الحال عام 2010.
الحالة الصحية للغة الفرنسية
بيد أن مجلة The Local نشرت، خلال احتفالات اليوم الدولي للغة الفرنسية قبل عامين، مقالا بعنوان صريح "ماهي الحالة الصحية للغة الفرنسية عام 2017؟". فقالت: إن تلك الزيادة خبر سارّ، بيد أنّ مسيرة الفرنسية في انحدار ملحوظ داخل القارة الأوروبية، وأن نسبة الناطقين بها تبلغ 36 في المائة، وأن الأغلبية تظل للإنجليزية بنسبة 54 في المائة. يقول ألكسندر وولف Alexandre Wolff من مرصد اللغة الفرنسية: "ليس لدينا إحصائيات عن جميع الدول، لكنها ظاهرة تؤثر على وضع جميع اللغات الأجنبية في أوروبا باستثناء الإنجليزية".
تزداد المفارقة أيضا داخل البرلمان الأوروبي في بروكسيل ومجلس أوروبا في ستراسبورغ عندما قرّرت بريطانيا الخروج من عضوية الإتحاد فيما يواصل مندوبو الدول السبع والعشرين المتبقية الحوار والتفاعل بالإنجليزية.! في المقابل، يتحول التمسك بالفرنسية بين دعاة حمايتها إلى حد الاحتماء بالقانون وكأن الفرنسيين يعيشون في مملكة قارقوش عندما أقرّت منطقة برايس الكبرى بندا جديدا في القانون أصبح يعرف باسم "بند موليير" يقضي بأنّ على البنّائين والمهندسين المعماريين أن يتحدثوا خلال وجودهم في مواقع البناء التي تموّلها الدولة باللغة الفرنسية، على غرار ما فرضته بلديات النورماندي، وأودو فرانس، وأوفرين/رون/ألب.
هي أوامر لا يتفق مع فلسفتها جميع المسؤولين الفرنسيين الذين يقولون إن الفرنسية ليست في حاجة لمحادثة باللغة ذاتها. وتقول فلور بيليرين Fleur Pellerin الوزيرة السابقة للثقافة الفرنسية والتي تتقن الإنجليزية والألمانية إنه "ليس هناك جدوى من حماية الفرنسية من التأثيرات الخارجية مثل تأثير الإنجليزية".
لا يقف التأثير الإنجيلزي عند هذا الحد، بل شعر كثير من الفرنسيين بالدهشة والانزعاج عندما تبين أن شعار الألعاب الأولمبية التي ستستضيفها باريس عام 2024 سيكون باللغة الإنجليزية. ومما يخفف ضجر القوميين اللغويين في فرنسا ما ترمي إليه بعض الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية عن احتمال أن يصل عدد الناطقين بالفرنسية في دول الصحراء الأفريقية إلى 750 مليون نسمة عام 2050. ويقول ألكسندر وولف: "نحن أكثر تفاؤلا بذلك، ويكمن التحدي الآن في إيجاد نظام تعليمي فعال في الدول الفرنكفونية قادر على استيعاب مزيد من الأطفال في المدارس. وثمة تحدّ ثان هو ضمان أن تبقى الفرنسية لغة التدريس في تلك الدول.".
غير أن أرجحية كفة الإنجليزية على كفة الفرنسية في السنوات العشرين الماضية لم يكن بفعل الصدفة أو لتفضيل جمالي بين اللغتين والثقافتين، بقدر ما يرتبط أيضا ببعض مقومات الاقتصاد السياسي. مثال ذلك أن ميزانية منظمة الفرنكفونية عام 2008 وصلت إلى ستة ملايين يورو، بينما ازدادات ميزانية المجلس البريطاني إلى 150 مليون يورو لتمويل جهود نشر الإنجليزية.
يقول أحد الباحثين الفرنسيين غاري غيرو Gary Girod: "في أي نموذج دارويني، يمكن أن تصبح خاصية واحد هي السمة الغالبة أو يمكن إخراجها من الوجود. لقد تم تشتيت استخدام اللغة الفرنسية على مستوى العالم، وليس للثقافة الفرنسية أهمية تاريخية في العديد من مستعمراتها. هذه ليست الخصائص التي تزيد من فرص بقاء اللغة في الوجود".
أعيد نظري إلى وجهة المغرب والجزائر وتونس والدول المجاورة، وأتساءل عن مدى وعي النخب السياسية والعسكرية والمالية االمدافعة عن الفرنكفونية هناك بهذه الحقيقة المرّة، وأن مسيرتها في تعثر مستمر في العالم. هل لدول المغرب الكبير استراتيجية واضحة في المجالين اللغوي والتعليمي والثقافي، وهل تعي أن مستقبل فرنكفونييها رهين بوضع حرج لدى فرانكفونيي فرنسا؟
ربما قد حان الوقت لأن يعيد المغاربيون النظر في حقبة تاريخية وصلت نهايتها "الدروينية" وبداية حقبة أخرى يتحتم أن نحسم فيها جوابا ذاتيا على سؤال المرحلة: هل نحن جزء من حقبة ما بعد الفرنكفونية أم أن ولاءنا التاريخي لباريس موليير يحتّم علينا البقاء داخل دائرة ضيقة قد نصل فيها إلى حد الاختناق الثقافي بين أنجلوفونيات العالم؟
أين السبيل إلى تقويم عروبة لغوية وثقافية منفتحة على العصر؟!