قطعاً، فإن الشيخ
الشعراوي ليس هو الإسلام، لكن قطعاً فإن الهجوم عليه يستهدف النيل من الإسلام!
وفي ذكرى رحيله بدأت عملية تشويهه، فقد فشلوا في هذا وهو على قيد الحياة، فاستمروا في حملتهم، والتي بدأت مبكراً على يد سلطة العمليات القذرة!
لقد أيقظوا وزير الداخلية من النوم، ليخبروه بأمر جلل، لقد قبضوا على اللصوص الذين سطوا على شقة الشيخ محمد متولي الشعراوي، والذين أصروا على إثبات اعترافهم بالسرقة في المحضر الرسمي، مع التأكيد على أنهم يترددون على شقة الشيخ الواقعة في بناية أمام مسجد الحسين ليمارس معهم الشذوذ الجنسي (فلم يكن قد انتقل إلى قصره بمنطقة الهرم).
كانوا صبية، فضلاً عن أن محاميهم (رأسه وألف سيف) أن يثبت ذلك في المحضر الرسمي، وفي دقائق قليلة كان الوزير يرتدي ملابسه ويقطع الطريق إلى قسم شرطة الجمالية، وهو يقود سيارته بنفسه، فقد كان هذا قبيل أذان الفجر! فهل كان الوزير نائماً حقاً؟ وهل يصرف سائقيه جميعهم بعد "الدوام الرسمي" حتى يضطر لقيادة سيارته بنفسه؟!
كانت هذه رواية الوزير، والتي ذكرتنا بما رواه "صفوت الشريف"، ضابط المخابرات في قسم السيطرة، من أنهم في اللحظة التي كانوا يقومون فيها بتصوير الفنانة سعاد حسني بعد أوقعوا بها مع عميلهم، وكان هو يقوم بالتصوير بنفسه، كيف أنه وجد بجانبه مدير الجهاز صلاح نصر، وقد جاء بنفسه ليشهد الأمر في سلطة العمليات القذرة، وهو ما جاء في تحقيق النيابة العامة في القضية التي اشتهرت إعلامياً بفساد المخابرات، عندما أعلن عبد الناصر بعد هزيمة سنة 1967 سقوط دولة المخابرات.. كانت وقائعها هي الحق الذي يراد به باطل، فعبد الناصر كان يتخلص من جهاز سيطر عليه صلاح نصر، ويعمل ضده؛ لأن هناك حلفاً جمعه بالمشير عبد الحكيم عامر، كان يخطط للانقلاب العسكري عليه، فكانت الهزيمة رمية من غير رام بالنسبة لعبد الناصر!
"اللعبة":
في قسم الشرطة استمع الوزير (بحسب روايته) إلى ما يقوله الصبية، وما يقوله المحامي، ولا نعرف إن كانت أجهزته جزءاً من عملية الادعاء، كما لا نعرف دوره على سبيل اليقين، وهل هو ضالع فيها، أم الأمر كله خاصاً بالمحامي الذي لقن الصبية بذلك، وقد راقت للوزير ومن معه "اللعبة"، لكن أيضاً في أي قضية من هذا النحو، يتم القبض على متهمين، فيكون المحامي حاضراً منذ اللحظة الأولى، وكأننا أمام فيلم بوليسي، لا يحدث مثله على أرض الواقع!
كان يمكن للوزير أن يتأكد من عدم صحة الواقعة، بطلب إجراء التحريات اللازمة للوقوف على ما اذا كان الصبية فعلا يترددون على شقة الشيخ، والتي كانت تقع في محيط "مولد" لا ينقطع، ويقع تحت الحراسة من قبل رجال الشرطة الذين ينظمون عملية الدخول على الشيخ، في الأيام المحددة لاستقبال الناس من كل أسبوع. فقد كان هناك طابور طويل في كل مرة يقوم الأمن بضبطه، وكان معظمهم من "دراويش الحسين" الذين لا يمضون أكثر من بضع ثوان يصافحون فيها الشيخ، ويقبلون يده، ويحصلون بذلك "على البركة "منه. وهو أمر شاهدته بنفسي عندما أقمت في بداية قدومي للقاهرة في منطقة الجمالية.. أقصد هذا الزحام وتنبيه رجال الشرطة على ألا يستمروا بالداخل كثيرا، ليعطوا فرصة لمن يتباركون بالشيخ مثلهم. ولم أتبعهم إلى الداخل، وإن وقفت أكثر من مرة متفرجاً على هذا المشهد!
ومن الواضح أن القوم بمن فيهم وزير الداخلية، لم يكن لديهم رغبة في الإنهاء المبكر للقضية، هذا إذا استبعدنا أنهم لم يكونوا ضالعين فيها، وعلى الأقل حتى يضعوا الرئيس مبارك "في الصورة"، وحتى يكون الوقت مناسباً لانتشار الحدث، لتحقيق المراد، إن كان من المستحيل أن تنشر الصحف مثل هذا الكلام. ولم تكن
مصر قد عرفت الانفلات الصحفي بعد، وليس في مقدور عاقل رشيد أن يصطدم مع الرأي العام بالإساءة لشيخ بلغت شهرته الآفاق، وصار عنوانا مهماً للدعوة، إن لم يكن العنوان الأبرز!
مع البلطجية:
بحسب رواية الوزير، فإن الصبية ومحاميهم من غير المسلمين، ويعجب المرء لهذا الالتزام بالقانون معهم في وقت كانت فيه أقسام الشرطة سلخانات يُمارس فيها التعذيب، بعلم الكافة، فقد كانت المعاملة راقية، استمع فيها الوزير من الصبية ومحاميهم إلى ما يريدون إثباته في المحضر، وطلب منهم في رجاء، وهو الذي لا يتوقف عن السب واللعن، أن يمهلوه حتى الصباح لتحرير المحضر، وكانت المشكلة هي أين يتحفظون عليهم ومعهم محاميهم، في مكان آمن، فهل يأمنون ألا يتم اقتحام القسم، في هذه المنطقة الشعبية، وربما تدميره بمن فيه، إذا اتصل علم الناس بالأمر؟!
لقد كان "المكان الآمن" من وجهة نظر الوزير ومن معه هو سجن الاستئناف الملاصق لمديرية أمن القاهرة، ونزلاؤه هم من البلطجية ومتعاطي المخدرات والقوادين والأشقياء، وهم لا يشغلهم الدين ورجاله، ومن المفترض ألا يمثل لهم الشيخ الشعراوي أي قيمة!
وقد كانت العادة أن من هم في الزنازين يسألون "الوارد" عن القضايا المتهمين بها، فلما ذكروا لهم السبب، كاد هؤلاء الأشقياء أن يفتكوا بهم، ليتدخل الحراس فينقذوهم من أيديهم بصعوبة!
فلما علم مبارك بالأمر، طلب من وزير داخليته أن ينهي القضية، وكان الحل أن يتنازل الشيخ الشعراوي عن بلاغه، وهو ما حدث فعلاً، فقد تحقق المراد وإن كان في حدوده الدنيا. ولا بد أن يفهم الشيخ أن هناك في الأجهزة الأمنية من يتشكك في أن الاتهام حقيقة، وأن أهل الحكم أصحاب فضل عليه، ثم إنه من المهم ترديد الأمر ليصبح مشاعاً، وهو ما قام به الوزير في جلساته الخاصة، لكن الرأي العام لم يعبأ بما يتردد فثقته في الشيخ بلا حدود، ولا يمكن أن يصدق مثل هذا الكلام فيه، لا سيما وأن الصبية ومحاميهم ليسوا مسلمين!
وكان اثنان من الذين نقل لهم الوزير زكي بدر روايته، قد استمعتها منهما، فقد التقى بهما كل على حدة، ونقلوها عن لسانه لي أيضاً، كل منهما على حدة، وكان الفاصل الزمني بين الروايتين هو عدة سنوات؛ كنت في الأولى بريئاً، فسألت: ولماذا يفعلون هذا مع عالم ليس معارضاً للسلطة، وهو من رجال الدولة؟ إذ سبق له أن تولى منصب وزير الأوقاف في عهد الرئيس السادات. ولم أكن بريئاً عندما استمعت لوقائع القضية بعد سنوات، فقد وقفت على أن أنظمة الاستبداد تمثل فيها العمليات القذرة أحد وظائفها المهمة، للسيطرة والتحكم، وللاغتيال الشخصي، لا سيما مع الشخصيات المشهورة، فيسقطون في أعين العامة، الذين لا يقبلون من رموزهم إلا أن يكونوا أنصاف آلهة!
مع الباقوري:
وهناك محاولة للتشويه سابقة، فشلت سريعاً، فعلتها دولة الأجهزة الأمنية مع الشيخ أحمد حسن الباقوري، والرجل كان قريباً من عبد الناصر، وقد باع جماعته (الإخوان المسلمين) وقبل منصب الوزير على غير إرادة المرشد، وكان رفض توزيره من قبل التنظيم نهاية علاقته به، وبداية النهاية لعلاقة التنظيم بعبد الناصر. وفي وقت لاحق، قال الشيخ للمرشد العام لنتجاوز الأزمة: شهوة ملك يا سيدي!
لقد طُلب منه الحضور لاجتماع تنظيمي من تنظيمات السلطة، في شقة بوسط القاهرة، وأُعطي له العنوان، فلما حضر فُتح له وجلس في "الصالون" في انتظار القادمين للاجتماع التنظيمي، واتصلوا بزوجته وأخبروها بأن زوجها هو الآن في أحضان امرأة لعوب، فجاءت مهرولة، طرقت الباب فكانت من خرجت من إحدى الحجرات لتفتح لها هي امرأة شبه عارية، في إشارة لا تخطئ دلالتها العين، ولم يكن في الشقة سوى الشيخ الباقوري، وفي انتظار أن تتصرف الزوجة الغاضبة بما ينشر الأمر في البناية كلها.. وربما في الشوارع المحيطة، فزوجة الشيخ ضبطته في شقة مفروشة، لينتشر الخبر في كل أنحاء القطر المصري!
بيد أن رد فعل الزوجة التي تخرجت في المدارس الفرنسية، لم يصل إلى خارج الشقة!
ومن باب الإنصاف، فلا نعرف إن كان عبد الناصر وراء ما جرى، أم أنه الصراع بين الأجهزة المختلفة، وتصفية حسابات بين أذرع الحكم، والتي وصلت إلى اعتقال سكرتيرة محمد حسنين هيكل؛ نكاية به وبسبب علاقته المتفردة بعبد الناصر!
فما أعرفه أن الشيخ الباقوري ظل مستمراً في علاقته بالسلطة التي اختارته في الكثير من المواقع الوظيفية المهمة، ومنها منصب مدير جامعة الأزهر، وإن كان هذا لا ينفي ضلوعها في محاولة تشويهه.. حتى لا يمكنه فتح عينه في مواجهتها.
وما أريد قوله إنه ليس شرطاً أن تكون معارضاً لكي تستهدفك دولة العمليات القذرة، فيكفي أن تكون لك مكانة في الحياة العامة، في بلدان لا يجوز لأحد أن تفوق شهرته شهرة الحاكم. انظر إلى الهجوم الذي يبدو غير مبرر بين الحين والآخر على شخصيات ليست منافسة في مجال السياسة، مثل محمد أبو تريكة ومحمد صلاح، في إعلام السيسي!
الشعراوي والإيقاع بمحرر فني:
لقد كانت شهرة الشعراوي ومكانته الرفيعة في قلوب الناس، قد بلغتا حداً مخيفا لأي نظام مستبد، فكانت محاولة تشويه سمعته، وقد بذلت محاولة أخرى للتشويه من باب الشذوذ الجنسي أيضاً، بعد فشل المحاولة الأولى، رغم أن وزير الداخلية نفسه هو من كان يرددها في جلساته الخاصة، وقد نقلها لي أول مرة الدكتور فرج فودة، ثم نقلها لي في المرة الثانية المستشار سعيد العشماوي ونقلا عن الوزير زكي بدر. ولا أنكر أنني استمعت إلى هذه الواقعة تروى مبتورة وعلى استحياء في محيطي الصحفي!
وقد قدر لي أن ألتقي بأحد هؤلاء البلطجية الذين استقبلوا الصبية ومحاميهم في سجن الاستئناف، وكان قد جاء لجريدة "الأحرار" ليعمل بالأمن فيها!
المحاولة الثانية، كانت خاصة بمحرر فني في إحدى المجلات (أصبح مشهوراً الآن) كان يردد في كل مكان أن الشيخ الشعراوي راوده عن نفسه، وكان يروي هذا في محيط كاره، فلا أحد يهتم بمناقشته، حتى لا تنهار الرواية، لافتقارها للحبكة الدرامية، رغم أنه محرر فني تربطه علاقة وثيقة ببعض كتاب السيناريو!
كان معروفا عن الشيخ الشعراوي أنه زبون دائم على مطعم أبو شقرة الكبابجي، وكان يوزع على ضيوفه أحيانا "كوبونات" يصرفوها من المطعم، فعلاقته وثيقة بصاحبه. وقد تحدث مرة على ما أعتقد عن طعامه المفضل وذكره، لكن الشائع أنه لم يكن يحضر بنفسه للمطعم، فقد كان يُنقل المطلوب إلى بيته قبل أن تعرف مصر خدمة "التيك أوي".. إذن، لا بأس فليكن مطعم أبو شقرة هو المكان!
تقول الرواية العبثية إن الشيخ عندما رأى المحرر الفني "إياه" أمر سائقه بأن يغادر لأنه سيعود مع الأستاذ فلان، المحرر الفني هذا، وبدون سابق معرفة، غير أن هذا هو الشيخ الشعراوي وهذا هو المحرر الفني!
وعندما جلس بجانبه، وهو يقود سيارته، إذ بيده تمتد إلى حيث لا يجوز، ليصرخ فيه المحرر الفني: "إيه ده يا مولانا"؟! لينهار الشيخ وهو يقول إن عليه أن يلتمس له العذر، فهذا مرض وهو في النهاية بشر!
ولم أكن قد استمعت لهذه الرواية من واحد من عوام الناس، لكنني استمعت إليها من مصدر ثقة، مشكلته أنه لم يناقش الرواية، مع أنني رأيته دائما دقيقا وعادلاً، إلا مع هذه الرواية المتهافتة. وحدث أن التقيت بالمحرر الفني إياه في أحد الفنادق وانتهزت فرصة أنه يجلس بجواري وسألته، ومع أن كلامي كان همساً، لكن من الواضح أنه كان حاداً، فلم يكن من المناسب أن يطمئن لي:
ما هذا الذي قلته عن الشيخ الشعراوي؟
فبدا كمن لدغه عقرب، وفي تصرف تمثيلي أكد أنه ممثل غير موهوب:
الشيخ الشعراوي؟ من الشيخ الشعراوي؟ أنا لا أعرف الشيخ الشعراوي.. أنا لم أقل شيئاً!
وبطريقة تؤكد روايته، دون أن يتورط في ذكر شيء، ومع إنسان يبدو أنه مستاء!
لكن حتى هذه الرواية لم تنتشر، ولم تنل من الشيخ لدى من وصلتهم، فكانت الخطة البديلة هي تحريض من يهاجمونه والتشهير به، فكان إبراهيم عيسى وأمثاله!
عندما بدأ المذكور "عيسى" في الهجوم على الشيخ الشعراوي، وكان رجل الأعمال نجيب ساويرس من يتبناه (ولم يكن ذائع الصيت كما هو الآن)، فضلاً عن أنه كان يعيش في معية الأمن، فوزير الداخلية عبد الحليم موسي وفر له حارسا عندما كذب الوزير وصدق نفسه، وقال إنه بالقبض على من اغتالوا الدكتور فرج فودة عثر معهم على قائمة من الكتاب والصحفيين بهدف اغتيالهم، ومن بينهم المحرر الشاب حينذاك إبراهيم عيسى.
وكان واضحاً أن الحراسة من ناحية للوجاهة الاجتماعية، ومن ناحية أخرى حتى يقوم بالمهمة الجديدة وهو في الأمان، ولم يكن حديث قوائم الاغتيالات صحيحاً.
ومشكلة إبراهيم عيسى الآن أنه كالتاجر عندما يفلس، فلم يستطع أن يقترب ممن هم في القصور، فلم ينبس ببنت شفة ضد التعديلات الدستورية عندما شرع القوم في إعدادها، ونزل عليه سهم الله، ففتش في دفاتره القديمة، فعاد سيرته الأولى يهاجم الشعراوي، وكأن الرجل لم يمت، وكأنه لا يزال يعيش بين ظهرانينا، فما هي مناسبة هذا الآن؟!
لقد نسيت أن أشير إلى أن المذكور يعمل في قناة "الحرة" الأمريكية، عندما يصبح الهجوم على الشعراوي هو المطلوب فيها، ويصبح الإسلام المطلوب أمريكيا المتحدث باسمه عيسى وإسلام البحيري؛ نجوم "الحرة"!
بيد أنهم في واشنطن لا يدركون أنهم بمنابرهم وخياراتهم وشخوصهم فاقدين للثقة والاعتبار!
فياما جاب الغراب لأمه!