على نحو مفاجئ، فشل رئيس الوزراء
الإسرائيلي وزعيم حزب الليكود، بنيامين
نتنياهو، في
تشكيل حكومته الخامسة، رغم أنه حقق ومعسكره السياسي (اليمين المتطرف) نصراً معتبراً وحاسماً في
الانتخابات البرلمانية (شبه) المبكرة، التي جرت أوائل شهر نيسان/ أبريل الماضي، بدلاً من موعدها المقرر أصلاً في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.
يمكن الحديث عن ثلاثة أسباب رئيسية تقف خلف فشل نتنياهو في تشكيل الحكومة، أولها أن إسرائيل دولة غير طبيعية وغير مستقرة، ونجاحها في فرض أمر واقع لصالحها في السياق الفلسطيني لا يلغي أو ينهي مشاكلها البنيوية العميقة، التي تمنعها من الاستقرار، وحتى البقاء على المدى الطويل. والسبب الثاني يتمثل برغبة وزير الدفاع السابق ورئيس حزب إسرائيل (بيتهم)
أفيغدور ليبرمان في الانتقام من نتنياهو والتعجيل بنهاية حياته السياسية، أملاً أو حلماً في قيادة معسكر اليمين المتطرف بدلاً منه. أما السبب الثالث، والذي يبدو غامضاً وغير شائع، فيقول بتعمد نتنياهو نفسه الفشل والذهاب إلى انتخابات جديدة، على أمل أن يحقق حزبه (الليكود) نتيجة أفضل؛ تمكنه من تشكيل الحكومة دون دفع أثمان شخصية وسياسية واقتصادية باهظة لخصومه.
إسرائيل دولة غير طبيعية ومصطنعة في تركيبتها والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذه الحقيقة مرتبطة مباشرة بولادتها ونشأتها ككيان استعماري لمهاجرين غرباء عند احتلال فلسطين وتشريد شعبها، وارتكاب الجرائم المستمرة بحقه. ونحن نتحدث عن مجموعات عرقية ودينية واقتصادية واجتماعية متنافرة؛ بينها تباينات عميقة وفجوات هائلة. ورغم نجاحات الدولة وتفوقها التكنولوجي والعلمي والاقتصادي، لم يتم وضع حد أو حلول لتلك الأزمات والمشاكل، حتى مع الانتصار العسكري على الدول العربية ووجود الدولة في أفضل حال لها من الناحية الأمنية. وخلق أو بلورة وضع راهن على الجبهة (المركزية) الفلسطينية يعتبر مثاليا للدولة العبرية، حيث الكلفة المنخفضة جداً للاحتلال، وازدهار الاستيطان والانقسام السياسي الجغرافي غير المفهوم أو المبرر في صفوف الفصائل الفلسطينية وعجزها عن التوحد. كما في تحول التهدئة إلى القاعدة (في الضفة وغزة) وليست الاستثناء؛ بين الشعب الخاضع للاحتلال والقوة القائمة بالاحتلال، وهي حالة غير مسبوقة في التجارب التاريخية المماثلة.
السبب الثاني يتعلق برغبة ليبرمان في الانتقام من نتنياهو الذي أجبره على الاستقالة والنيل من مكانته وهيبته كوزير للدفاع، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كما لرغبة ليبرمان في تزعم معسكر اليمين المتطرف، وبالتالي تقريب نهاية نتنياهو السياسية على قاعدة أن عدم تشكيل حكومة حالياً، والذهاب إلى انتخابات بعد شهور؛ سيمنعان سن قوانين تحمي نتنياهو من المساءلة القانونية، وتعرقل الإجراءات القضائية التي ستسير في سياقها المرسوم مسبقاً، حيث سيتم عقد جلسة استماع له (تشرين الأول/ أكتوبر)، وهي خطوة إجرائية معتادة قبل توجيه لائحة اتهام رسمية له ستنهي عملياً حياته السياسية قبل أن يتمكن من تشكيل حكومة جديدة بعد فوزه المتوقع في الانتخابات القادمة أيضاً.
ليبرمان المقامر، وليس الاستراتيجي (كما يقول دائماً ناحوم برنياع المعلق البارز في يديعوت)، فهم ما فهمته الساحة السياسية برمتها، حيث لا فرصة سوى لليمين المتطرف (الليكود وحلفائه) لتشكيل الحكومة مع ضعف وانهيار معسكر اليمين والوسط (اليسار هامشي وضعيف أصلاً منذ سنوات)، كما فهم أن لا منافس لنتنياهو الآن على زعامة هذا المعسكر، بينما يفتح رحيله باب التنافس أمام الجميع، بمن فيهم ليبرمان نفسه، والذي يرى نفسه جديراً ذا تجربة (خدم كوزير للخارجية ثم للدفاع)، خاصة مع عدم وجود سياسي بارز ذي أفضلية في الليكود، واليمين بشكل عام.
أما السبب الثالث الذي قد يبدو مفاجئا بعض الشيء ومستغربا، فيشير إلى أن نتنياهو نفسه لم يكن جاداً في تشكيل الحكومة، وتعمد الفشل عن سبق إصرار من أجل الذهاب إلى انتخابات مبكرة أخرى، كما قال المعلق المخضرم سيفر بلوتسكر في صحيفة يديعوت أحرونوت، في 2 حزيران/ يونيو الحالي.
الفكرة التي طرحها معلق يديعوت المخضرم تدعي أن نتنياهو شخّص منذ صدور نتائج الانتخابات السابقة العراقيل التي تمنعه من تشكيل الحكومة، وتجبره على دفع أثمان سياسية اقتصادية وحتى شخصية باهظة، وأنه قد لا يضمن تحصين نفسه ضد إجراءات المستشار القضائي، كما أنه فهم نتيجة الانتخابات الماضية وضياع آلاف الأصوات من اليمين المتطرف، ورأى أن تكتيكا حزبيا وانتخابيا مختلفا سيضمن له حصد 40 مقعدا نيابيا لحزبه (الليكود) مع 21 لحلفائه الطبيعيين في الأحزاب الدينية واليمين المتطرف، دون الحاجة لليبرمان وابتزازه، على أن يتم ضمه للائتلاف لاحقاً بعد تشكيل الحكومة تماماً، كما جرى بعد انتخابات 2015. من هنا، سعى نتنياهو لدمج حزب كولانو ضمن الليكود، مع توفير ميزانيات إضافية لاستقطاب المهاجرين الروس، وإضعاف ليبرمان فى معقله وجرف أصوات منه، مع السعي لضم وزيرة القضاء السابقة إييليت شاكيد لليكود، وعدم خوض المعركة مع حزب اليمين الجديد بزعامه أحد خصومه اليمينيين (نفتالي بينيت) لضمان وصوله للبرلمان، لكن ضعيفاً مكسور الجناح (مع أربعة أو خمسة مقاعد) بعدما عجز عن تجاوز نسبة الحسم في انتخابات نيسان/ أبريل الماضي.
في كل الأحوال، نحن أمام حالة من التخبط وعدم اليقين في إسرائيل، وحتى الفوضى حسب تعبير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وغالباً سيفوز نتنياهو والليكود في الانتخابات القادمة المقررة منتصف أيلول/ سبتمبر القادم، لكنه قد يجد نفسه أمام واقع مماثل لذلك الذي رأيناه بعد الانتخابات الماضية،
ولا يتمكن بالتالي من تشكيل الحكومة مرة أخرى، وقد يضطر للرحيل قبل أو بعد ذلك. وسيكون المشهد مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما فيها تشكيل حكومة وحدة بين الليكود و
كاحول لافان، دون نتنياهو طبعاً، مع تهميش وإقصاء للأحزاب الدينية، وربما لليبرمان نفسه، ما يعني مزيدا من الاستقطاب والتجاذب والفوضى، مع الانتباه لحقيقة أنه ورغم الواقع الفلسطيني العربي المنهار، وتمكن الفلول والثورة المضادة من السلطة، والتهافت على التطبيع مع إسرائيل، إلا أن مشاكلها البنيوية العميقة التي تعود إلى نشأتها المصطنعة الدموية، تفرض نفسها دائماً، اضافة لعدم الحسم النهائي، سلماً أو حرباً، في الملف الفلسطيني المركزي الذي يمثل عملياً التحدي الخارجي الأهم والأبرز أمام إسرائيل، وجذر الفوضى وعدم الاستقرار فيها.