هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بمرور الوقت المتميز بنشاط الحراك الوطني العظيم وشرائحه المهنية والطلابية، يبدو أن المطالبة المعهودة بالخروج من الأزمة استرشادا بالمادة 102 من الدستور، بدأت تتلاشى كلما ازدادت التأكيدات الرسمية عليها. وفي الوقت ذاته، رُفع الحجاب عن التأكيدات المتعلقة بالمادتين السابعة والثامنة من الدستور، اللتين تأتيان قبل باقي المواد ولا غرابة في ذلك لأنهما تتمتعان بالأسبقية.
وترتسم أمامنا بكل وضوح الهيئة الانتقالية التي تُقام لمدة سنة، والمكونة من نساء ورجال ذوي كفاءة مُعترف بها، وهم يراعون خدمة بلادنا بدلا من خدمة صالحهم، ملتزمين بعدم التقدم للترشح لأي عهدة انتخابية أو منصب وزاري فيما بعد، ولم تسبق لهم صلة مباشرة مع السلطة خلال السنوات الخمس المنصرمة.
وخلال هذا العام، ستُحدد شروط للعودة إلى الديمقراطية التشاركية والشعبية، مما يسمح لنا برسم مصيرنا المشترك عن طريق سبيل وحيد ألا وهو صندوق الاقتراع، على جميع مستويات التمثيل، سواء بالنسبة لرئاسة الجمهورية أو للهيئات التمثيلية الوطنية والمحلية. وستكتفي هذه الهيئة أيضا بتسيير الأعمال الجارية لمختلف الإدارات الوزارية.
أيا كان ما يقوله المرء، يبدو أن هذا هو الإنجاز الذي سوف يتمخض عن التطورات الحالية بفضل شجاعة وتصميم شعبنا الباسل. وكذلك بفضل القبول المنتظر من جانب الجيش الوطني الشعبي أخيرا لغلبة المادتين 7 و 8 من الدستور. فهو يستحق عندئذ أكثر من أي وقت مضى لقب “شعبي”، وهو يدخل التاريخ من خلال نموذجيته كعنصر حاسم في مسار العودة إلى الديمقراطية.
ومع ذلك، القدرة على تحقيق الانتصار بشكل مستدام وتحقيق نصرة هذه القضية العظيمة يتطلبان أيضا الحكمة والاعتدال.
بدلا من تقليل احتمالات الحوار مع “الشارع”، أرى أن تُطلق دعوة للتشاور حول هذه الهيئة الانتقالية، على أن تكون الدعوة عامة ويمكن أن تشمل أعضاء من مناطق جغرافية أو من قطاعات أنشطة من الحراك الشعبي، سواء أكانت رابطات مهنية أو طلابية، وأيضا من الأحزاب السياسية الصغيرة كالكبيرة، فيجب تحديد ممثلين لبدء عملية تشاور، مع إضافة الأفراد المؤهلين الذين سيكون لهم مهاراتهم وخبراتهم المتفق عليها بشكل متبادل. وسوف ينطوي النداء على مخطط مشروع هيئة انتقالية تُحدد مدتها واختصاصاتها ولائحة الوظائف محل التفاوض. أما في وقت لاحق، يأتي توزيع المهام بتوافق الآراء قدر الإمكان. وعند الموافقة، يجب أن تحل هذه الهيئة الانتقالية ذات القيادة الجماعية محل الحكومة التي عينها الرئيس الأسبق قبل استقالته. وسيدخل المبدأ الجمهوري المتمثل في الفصل بين السلطات حيز التنفيذ على الفور في الممارسة العملية، وليس فقط في التصريحات الرنانة.
وسيقتصر طلب الاستبعاد على الذين شاركوا مباشرة في السلطة؛ اعترافا بمقولة آينشتاين، بأننا لا نحل المشاكل مع من خلقها. وفي حالة النزاع، لا يمكن استثناء، فيما عدا الإدانة الجنائية، الأشخاص غير المرتبطين بالسلطة المدنية لأكثر من 5 سنوات. ذلك لأن أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع أقدموا على ذلك احتجاجا على الاستبعادات العشوائية الماضية، التي دفعت الكثير من “الحراقة” وغيرهم من المهمشين إلى البحث عن لقمة العيش في بلدان أخرى. فلا يُعقل أن هؤلاء سيفعلون للآخرين ما أدانوه على السلطة المدنية السابقة من معاملة ضد أنفسهم لوقت طويل. ويجب ألا يُعاقب أي شخص خدم بلده بإخلاص، حتى ولو تحت إشراف سلطة مُقصرة.
إن التاريخ مليء بالحالات التي تندلع فيها ثورة، وتتعرض خلالها شرائح كاملة من المجتمع للمطاردة، مما يوقع البلاد في تدهور اقتصادي واجتماعي دائم، ويسرع من رحيل ذوي الخبرة الموهوبين إلى الخارج. ومنذ وقت ليس ببعيد، قررت الإدارة الأمريكية بعد غزوها للعراق قبل 18 عاما استبعاد جميع ذوي الخبرة في البلاد الذين عملوا عن كثب أو عن بعد مع نظام صدام حسين. ونتج عن ذلك تراجع ما زال العراق يعاني منه إلى يومنا هذا.
إن ميزة القيادة السياسية خلال الفترتين الرئاسيتين الأخيرتين، تمثلت في دفع وحدة الجزائريين حتى ولو كانت ضد السلطة. هذه الوحدة في الرفض، التي دفعنا ثمنها غاليا، يجب أن نبذل قصارى جهدنا للحفاظ عليها في مرحلة بناء الديمقراطية المنشودة، وهي عملية يجب أن تستمر في إطار وحدتنا التي عثرنا عليها، من خلال البحث الدؤوب عن الإجماع وقبول الحل الوسط، فضلا عن تفادي الانتقام وتجنب اللجوء إلى تسوية الحسابات.
ويجب أن نرفض فكرة أن اتخاذ قرار ضد شخص أو غيره هو بديل لاستراتيجية الخروج من الأزمة؛ فيتعين في المقام الأول على الهيئة الانتقالية وضع استراتيجية حقيقية في هذا الشأن. ومن ناحية أخرى، سيكون الأمر متروكا للمؤسسات القضائية المحررة من الخضوع للسياسة لقمع الانتهاكات المرتكبة ومكافحة مثل هذه الانتهاكات، بما في ذلك الفساد المستشري الذي يجب أن يظل أمرا قضائيا وليس سياسيا.
فهذه هي اللحظة المناسبة للتأكيد أن الاعتدال هو بالفعل القوة والشجاعة لأولئك الذين عانوا من الظلم. ولكنه أيضا واحدة من الفضائل التقليدية العظيمة للإسلام التي تدعو إلى الوسطية.
عن صحيفة الشروق الجزائرية