إطلاق النار في الهواء ظاهرة حاضرة عربيّا، أو في بعض البلاد العربية على الأقل، غالبا في المناسبات السعيدة، وربما في نقيضها من المناسبات، لكنها ومن هذه الجهة لم تكن مألوفة فلسطينيّا، فالسلاح، قبل دخول السلطة الفلسطينية، شحيح، والكشف عنه مخاطرة محتّمة ثمنها فادح بسبب ملاحقة الاحتلال. ويفترض، والحال هذه، أنّ له مهمّة محدّدة هي مقاومة الاحتلال، تستدعي حفظه من الراصدين، وحفظ ذخيرته من العبث.
اختلف الأمر بعد دخول السلطة، وقد دخلت معها الظواهر العربية التي لم يكن يلزمها في فلسطين أكثر من سلطة سياسية على غرار السلطات العربية، فصار هناك سلاح "رسمي" يمكن كشفه؛ وإطلاق ذخيرته في الهواء من القطاعات الأكثر اقترابا من السلطة، وفي طليعتها "الحزب الحاكم". بيد أنّ المفارقة في كون هذا الحزب (والذي نعني به هنا حركة فتح) في أصل بروزه للوجود؛ حركة تحرر، يَنبغي من هذا الموقع أن تكون ملاحقة من الاحتلال، ويُفترض بها أن تحافظ على ذخيرتها.
تكن مألوفة فلسطينيّا، فالسلاح، قبل دخول السلطة الفلسطينية، شحيح، والكشف عنه مخاطرة محتّمة ثمنها فادح بسبب ملاحقة الاحتلال
ثمّة مفارقة أهمّ، وإن كانت متّصلة بالمفارقة السابقة، وهي أنّ الظرف الذي يُطلَق فيه النار الفلسطيني في الهواء لا يقتصر على المناسبات السعيدة ونقائضها، بل لعلّ هذا الظرف هو الأقل، وإنّما الظرف الأبرز، هو إطلاق النار في الهواء في سياق الاستعراض السياسي، الذي ترافقه شكلانية نضالية، كلثام الوجه والزيّ العسكري، واللذين يحضران في الوعي الفلسطينية بصفتهما جزءا من الذاكرة النضالية الفلسطينية. فالمناضل الفلسطيني في الانتفاضة لأولى، كان يخطّ شعارته على الجدران، ويوزع منشورات فصيله، ويلقي الحجارة، ويشارك في الاستعراض العسكري بالسلاح الأبيض وهو ملثم.
نحن هنا بالضرورة نتحدث عن التاريخ النضالي داخل الأرض المحتلة لا خارجها، ومع ذلك فحتى المقاتل في معسكرات الثورة في الأردن أو لبنان، والذي يستطيع الظهور بسلاحه في معسكراته خارج قدرة الاحتلال الأمنية، وبالإضافة لزيّه العسكري، لم يكن شأنه يخلو من اللثام، ولا من الاسم المستعار، أو الكنية التي تحيل إلى وضع خاصّ، يميّزه دورا ووظيفة عن أيّ أحد آخر لا يلتحق بالثورة، وهو ما يشبه الحال القائم الآن في قطاع غزّة، فرغم الاستعراض بالسلاح، فإنّ حامله الذي ينتسب لفصيل مقاوم، يحرص في استعراضه على لثامه وزيّه العسكري.
الأمر في الضفة مختلف، فقدرة الاحتلال الأمنية شاملة ومباشرة، ولأنّ بداهة السلوك الاحتلالي هي ملاحقة حامل
السلاح الفلسطيني، فيفترض إذن إخفاء هذا السلاح والحفاظ على ذخيرته، ولأنّ ما هو واقع في الحقيقة عكس هذا الافتراض، فلا معنى لذلك سوى أنّ مطلق النار في الهواء مطمئن إلى عدم ملاحقته، وإلى كون الاحتلال مطمئنا بدوره إلى أنّ هذا السلاح غير مخصّص لمقاومته، بيد أنّ هذا يعيدنا للسؤال المركزي، فطالما أنّ هذا السلاح غير مخصّص لمقاومة الاحتلال، فلماذا يُطلق حاملُه النار منه في استعراض سياسي، وفي صورة تحرص على الشكلانية النضالية؟!
لا يختلف الأمر في جوهره، عن إطلاق النار في الأعراس، فالسؤال نفسه قائم: لماذا تُطلق النار في الأعراس؟!
قبل زمن الأسلحة الحديثة، كان العربي يرقص في العرس بسيفه، ولو رقص دون السيف، فلا شيء يميّزه عن النساء الراقصات في العرس نفسه، فلا بدّ من سيمة ذكورية تميّز الرجل في فعل تشاركه فيه النساء. والرجل هو المختصّ بالحرب، والذي تحضر معه آلة الحرب في كلّ وقت، والسلاح في هذه الحالة تعريف للذات وهوية ومعنى، وكأنّ وظيفة الرجل في الحياة أن يكون محاربا.
الرجال هم الذين يذهبون إلى الحرب، الرجال هم الذين يحملون معهم أداة الحرب في كلّ وقت حتى في الأعراس، لا يتمايز الرجال عن بعضهم، وإنما يتمايزون عن النساء، والذي لا يذهب إلى الحرب ليس رجلا باعتبار الهوية والمعنى والوظيفة. لكن، ومع زمن الأسلحة الحديثة، لم يعد السلاح يميّز الرجال عن النساء، وإنما ب
يطلق العربي اليوم النار في هواء العرس شوقا إلى الفروسية، التي انعدمت، بعدما خصت الدولة الرجال، فاستعاض عنها العربي بالفروسية المخصية، وبنحو ما يُعبّر عن قهره
ات يميّزهم عن بعضهم. ففي الدول لا يحمل السلاح إلا الجنود ومن تسمح لهم الدولة، في حين لم يكن يحتاج العربيّ قبل ذلك إلى من يسمح له بحمل السيف. وفي الثورات لا يحمل السلاح إلا الأخفياء، في الثورة لا يرقص الرجال بـ"الكلاشنكوف"، ولكنهم يخبئونه جيدا، ويحفظون عدد رصاصاته كما يحفظون أسماء أبنائهم.
يطلق العربي اليوم النار في هواء العرس شوقا إلى الفروسية، التي انعدمت، بعدما خصت الدولة الرجال، فاستعاض عنها العربي بالفروسية المخصية، وبنحو ما يُعبّر عن قهره. فبعدما كان لا يحتاج إلى من يسمح له بتمنطق السيف، بات يحتاج من يسمح له بامتلاك الرشاش، وحينئذ، وهو يطلق النار في الهواء، لا يخلو أمره من الانفصام الذي يمكن تعريفه بـ"الشعور الزائف بالتميز والاختلاف". فكون سلاحه مسموحا به فهو مقهور بالضرورة، ومع ذلك هو يستعرض السلاح في نشوة وكأنّه مختلف، وكأنّه فارس؛ فارس لا يرقص رشاشه إلا في العرس، ولا يطلق النار إلا في الهواء!
هذا المقهور الذي يشعر بالتميز؛ كيف سيتصرف لو احتاجته الدولة لقمع معارضيها؟! الإجابة غير بعيدة؛ لدى الشبيحة في سوريا مثلا! فالفارس المخصي، أول ما يطلق النار على جيرانه!
تفسير إطلاق النار في هواء الاستعراض السياسي وبشكلانية نضالية، هو ذاته ما سبق من تفسير إطلاق النار في العرس. إننا إزاء حركة كانت حركة تحرر تحمل السلاح لمقاومة الاحتلال، وتصف نفسها بـ"أوّل الرصاص"، المهدر اليوم في السماء، بعدما كان أول الرصاص في صدور الأعداء!
تفسير إطلاق النار في هواء الاستعراض السياسي وبشكلانية نضالية، هو ذاته ما سبق من تفسير إطلاق النار في العرس
المشروع السياسي الذي تندرج فيه هذه الحركة اليوم مناقض تماما لما كان عليه "أوّل رصاصها"، وتعاني خصما سياسيّا يقاوم الاحتلال. التناقض النفسي حينئذ في أشدّ حالته عنفا، فثمّة إطلاق نار في الهواء للقول إنّنا "أوّل الرصاص"، ولكن في سياق مواجهة سياسية مع خصم وطني، لا مع العدوّ!
في الآونة الأخيرة، أطلقت حركة فتح النار في الهواء بعد تعادلها مع الإطار الطلابي لحماس في
انتخابات جامعة بيرزيت، ومع أنّ السؤال وجيه إن كان مثل هذا التعادل يستحق هذه البهجة من "أم الجماهير" التي تقود السلطة، إلا أنّ الأهم، والأكثر جوهرانية، السؤال عن إطلاق النار بعد الفوز على خصم وطني أو التعادل معه، في حين كان الاحتلال
يهدم بيت الشهيد عمر أبو ليلى.
حاولت فتح، في سياق الدعاية الانتخابية، أن تقول "هذا الشهيد منّا"، بيد أنّها نسيت أنّه لم يحمل سلاحا مرخّصا، وإنما خطف بندقية جنديّ بعد طعنه، وكان عليها بعد ذلك أن تتذكر، وألا تطلق النار في الهواء، بيد أنّها للأسف لم تفعل!