هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
انتهت مساء الاثنين (22 نيسان/ أبريل 2019) عملية التصويت على التعديلات الدستورية الأسوأ منذ دستور 1971، وهو الأسوأ باعتبار عدوانه على السلطة القضائية وترسيخ تبعيتها للسلطة التنفيذية، والأسوأ باعتبار هيمنة مؤسسة غير سياسية ولا علاقة لها بأبسط قواعد الإدارة المدنية على الشأن العام كله، وهذه الهيمنة ستنشأ بعد قبول تعديل المادة 200، وهي المادة الأسوأ والأخطر من بين التعديلات؛ لأنها متعلقة بدور ومهام القوات المسلحة. وهذا الوضع شديد التمييز الذي مُنح للمؤسسة يصعب تغييره، إلا إذا وجدت قيادة رشيدة داخل المؤسسة، تدرك حدود دورها، وتقدس مهمة الحفاظ على الوطن من العدوان، وتعتبر نفسها جزءا من السلطة التنفيذية؛ تأتمر بأمر القيادة السياسية وتنتهي بنهيها، وهو أمر مستبعد في الأجل القريب.
المحصّلة، أن التعديلات سيُعلن إقرارها في خلال ساعات أو أيام قلائل، وسيترتب عليها وضع جديد من دسترة الاستبداد ومأسسته. والإشكال ليس متعلقا بالسياسة وحدها، بل ستزداد المعاناة الاقتصادية بالزيادات المرتقبة مع السنة المالية الجديدة (2019/ 2020)، وما سيجري من إجراءات اقتصادية أخرى لا تزال مطوية في علم الغيب. وستزداد الأزمات الاجتماعية التي تترتب على الغلاء من جهة، وعلى الشحن الإعلامي المدفوع من الدولة ضد مكوّنات المجتمع وبعضها، خاصة التيار السياسي الإسلامي. فإذا كان الحال كذلك، فما المخرج من تأزّم الحالة المصرية؟
بداية، لا يمكن فصل الحل عن سبب الأزمة، والسبب كان أداء النخبة السياسية المصرية منذ استفتاء آذار/ مارس 2011 حتى الآن. فالنخبة المصرية دخلت في صراعات مع نفسها ولم تقدر على استثمار حالة الميدان؛ التي تؤكد الأيام أنها كانت حالة صنعها الشارع والمتظاهرون، ولم يصنعها الساسة.. فعلها الناس بعفويتهم، ولم يفعلها الساسة لفساد طبائعهم وخبيئاتهم، ولما تُركت الدفة للنُخب تسلّم العسكر دفة التوجيه، إلى أن أمسكوا بالقيادة قسرا منتصف 2013. وهذه النخب بإخفاقاتها؛ لا تزال مصرّة على الاقتيات على نفس الشعارات وتحافظ على عداواتها السابقة، ولا يوجد من يريد أن يسمو على خلافاته لتحقيق الصالح العام.
ما تحتاجه المعارضة المصرية (التي كانت سببا للأزمة وهي أساس حلّها الآن) أن تسمو قليلا على خلافاتها، وأن تتجاوز الأفعال الصبيانية، وتدخل في حوار جاد بين أطرافها لتذيب الخلافات، أو على الأقل لتوحيد رؤيتها ومسارها نحو الوضع المصري، دون إقصاء لطرف من أطرافها، وكسر ثنائية "إسلامي - علماني"، والاتفاق على الحد الأدنى من المطالبات السياسية، وأهمها ضمان تداول السلطة، لكن ذلك لن يحدث (فيما يبدو) في القريب العاجل، وذلك راجع إلى أمور؛ الأول، أن هناك تخوفا حقيقيا من رد فعل الجهات الأمنية في حالة بدء حوار واسع بين المعارضين للاتفاق على مسار حراك سياسي. والفيتو الأمني يبدأ من حزب محافظ كمصر القوية، مرورا بالوسط وباقي الأحزاب السياسية "المُرَخَّصة" المنتمية للتيار الديني، وانتهاء بجماعة الإخوان التي يصنفها النظام على أنها إرهابية. وهذا التخوف له ما يبرره من الناحية الأمنية، ويمكن تجاوزه ببدء الحوار خارج مصر بين أشخاص يمثلون عموم التنظيمات السياسية المصرية.
الأمر الثاني، وجود رواسب عالقة من أحداث فترة ما بين الثورة والانقلاب، والغريب أن رواسب تلك الفترة يتم اجترارها في مرحلة القمع الذي يطال الجميع، مع أن نتيجة ذلك استمرار الوضع، في حين أنه يمكن فتح هذه الملفات في مناخ أفضل ويسمح بالمحاسبة الفعلية، لا تحت القصف العشوائي للاستبداد. وإذا كان بناء المستقبل لا يتم إلا بإزالة رواسب الماضي، فإن اختيار وقت عافية البدن يسمح بالتدخل الجراحي، ولا يمكن التدخل الجراحي حال وَهَنِ البدن وعدم استعداده للخضوع للجراحة. ومن هنا، تحتاج المعارضة إلى تحديد طريق الخروج، ثم تذهب إلى إزالة الرواسب بهدوء. وليس معقولا أن تتفق أجهزة الدولة (التي نخر الفساد أعمدتها وتناحروا فيما بينهم) على سلوك واحد ضد خصومهم الذين أسقطوهم في ثورة 2011، ولا تقدر المعارضة على فعل ذلك.
الأمر الأخير، متعلق بالخلاف الأيديولوجي أو الفكري، والتباين في الآراء والقناعات أمر طبيعي بل ومرغوب، أما سيادة رأي على آخر في نمط الحكم وغيره، فهذا شأن مجتمعي، يُحسم بالتصويت فقط، فيختار الناس الفكرة التي يريدون أن يعيشوا وفقا لها، وإذا أخفق أبناء مدرسة في نقل المجتمع إلى وضع أفضل، فسيذهبون بالضرورة إلى أفكار مختلفة، لذا لا ينبغي أن تكون الخلافات الفكرية حجر عثرة، بل ينبغي أن تكون قوة دافعة للمنافسة السياسية.
عوائق اتفاق المعارضة تبدو محمّلة بقدر أكبر مما تحتمل، وهذا ناشئ لغياب الإرادة في الحوار والائتلاف، مما يجعل إحدى أزمات المعارضة غياب قائد لها. وقد كان المرحوم عزيز صدقي يقوم بهذا الدور أثناء قيادته للجبهة الوطنية للتغيير، واستطاع جمع خصوم الماضي على طاولة واحدة، ومن ثَم أصبحنا نحتاج إلى البحث عن قائد للمعارضة، ونخرجه من عُزلته لنفع الصالح العام، كما نحتاج إلى البدء في بلورة نخبة سياسية جديدة تقفز على خلافات الماضي ولا تتجاهلها، وتدرك الفارق بين وقت الائتلاف ووقت تصفية الحسابات.