عندما اقتحمت قوات الأمن نقابة الصحفيين المصريين لأول مرة في تاريخها، انبرى البعض لنفي التهمة عن السيسي، فـ"الرئيس لن يوافق على ما جرى"، وهو الأمر الذي يتكرر الآن، بعد صدور "لائحة العار" التي أعدها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والتي لا تنتهك فقط حرية الإعلام، ولكن أيضا تجعل من الصحافة مهنة خطرة، وتعمل على العودة إلى زمن ما قبل صدور الصحف.
وكما قيل إن السيسي لن يوافق على اقتحام النقابة، فقد قيل كذلك إنه لن يوافق على هذه اللائحة، التي وصفوها بأنها لائحة "مكرم" (يقصدون "مكرم محمد أحمد" رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام)، كما لو كانت لا تزال مشروع لائحة، ولم يتم إقرارها ونشرها في جريدة "الوقائع المصرية"، أي أنها أصبحت سارية "المفعول" بحكم القانون!
بتداعيات عملية الاقتحام، حصحص الحق، وتبين أن هذا الاجتياح الأمني لم يكن ليحدث لولا وجود ضوء أخضر من السيسي، وأنه على علم به، فليس هذا من القرارات التي يستطيع وزير الداخلية أن يتخذها منفرداً. وبنشر اللائحة لتصبح سارية، فإن الأمر لا يمكن أن يحدث لولا أن "الحاكم المركزي" هو من يقف وراءها، ولا يمكن قبول الطريقة القديمة للمعارضة في البحث عن من يتم تعليق الاتهام في رقبته، بديلاً عن السيسي، كما حدث في واقعة القانون 93 لسنة 1995 (سيئ السمعة)، على الرغم من أن مبارك دافع عن القانون بقوة، ورفض فكرة العدول عنه، عندما قال تعليقا على طلب وكيل النقابة بذلك الراحل "جلال عيسي": لسنا باعة ترمس نقر القانون في الصباح ونلغيه في المساء.. ورغم هذا، كان هناك من يقولون إنهم يحتكمون للرئيس مبارك في مواجهة أعداء الصحافة، فالرئيس لا يمكن أن يوافق على هذا القانون!
الاجتياح الأمني لم يكن ليحدث لولا وجود ضوء أخضر من السيسي، وأنه على علم به، فليس هذا من القرارات التي يستطيع وزير الداخلية أن يتخذها منفرداً. وبنشر اللائحة لتصبح سارية، فإن الأمر لا يمكن أن يحدث لولا أن "الحاكم المركزي" هو من يقف وراءها
مقتضيات الأمن القومي
أسلوب قديم إذن ويستهدف المعارضة الآمنة، ونلتمس لمن يعتمدونه العذر في بلاد الخوف؛ التي اتهمت فيها مغنية بالإضرار بمقتضيات الأمن القومي المصري، لمجرد أنها قالت في حفل غنائي إن من يتكلم في بلادها يُسجن. ومن الضروري التأكيد أنه بعد أكثر من ثلاثين عاماً من العمل الصحفي، والاهتمام بالعمل العام، أني لا أعرف حدود مفهوم الأمن القومي قانوناً.
وبالمناسبة، فقد نصت اللائحة المذكورة على أنه من الجرائم التي تستوجب العقاب للصحفي، أو الإعلامي، أو المواطن، الإضرار بمقتضيات الأمن القومي، ولأنها تهمة فضفاضة، فقد جاء في النص اللائحي أن المجلس الأعلى للإعلام هو من له سلطة تقديرها.. لاحظ أن الاضرار بمقتضيات الأمن القومي قد تصل العقوبة فيها إلى إلغاء ترخيص الصحيفة، أو الموقع الالكتروني، أو المحطة التلفزيونية، أو صفحة التواصل الاجتماعي. فالقانون نص على أن أي صفحة يتابعها خمسة آلاف فرد هي في حكم الصحيفة، أو القناة، أو الموقع الالكتروني، فهو قانون يمتد إلى المواطن أيضاً!
نصت اللائحة على أنه من الجرائم التي تستوجب العقاب للصحفي، أو الإعلامي، أو المواطن، الإضرار بمقتضيات الأمن القومي، ولأنها تهمة فضفاضة، فقد جاء في النص اللائحي أن المجلس الأعلى للإعلام هو من له سلطة تقديرها
الحاكم المركزي
ما علينا.. فهذه
لائحة سلطة، وليست لائحة فرد، حتى إن كان هذا الفرد انبرى مدافعاً عنها بحكم موقعه. وقد أثير رفض لها عندما كانت مجرد مشروع، ومع ذلك أُقرت، ومن المؤكد أن الرفض من قبل الجماعة الصحفية قد وصل لـ "الحاكم المركزي". وقد نص قانون تنظيم الإعلام على أن إقرار اللائحة ونشرها في الجريدة الرسمية لتدخل حيز التنفيذ؛ يكون في بحر ثلاثة شهور من العمل بالقانون بحسب المادة الخامسة منه. فالشاهد أن إقرار اللائحة بعد ضعف هذه المدة، وقد نشر القانون في 27 آب/ أغسطس من الماضي، لتنشر اللائحة في 19 آذار/ مارس الجاري! وهذه مخالفة للنص؛ كانت تستهدف البحث عن الوقت المناسب.
وقد رأى القوم أن الفرصة مواتية بعد انتخابات النقيب والتجديد النصفي لمجلس النقابة، وقبل عقد الاجتماع الأول، لاختيار هيئة المكتب وما إلى ذلك، ولم يعقد الاجتماع إلى الآن، بحجة أن هناك خلافاً بين الأعضاء على عملية التشكيل، وظني أنها محاولة لتموت حالة الرفض الصحفي للائحة ولتصبح أمراً واقعاً، وقد أصبحت بالفعل بنشرها في جريدة الوقائع، وتم استخدامها للتطبيق في حالة جريدة "المشهد"، وضد قناة "المحور"!
اللافت هنا، أنه بنص المادة الخامسة من قانون تنظيم الإعلام، فإن نص اللائحة التنفيذية للقانون تصدر بقرار من رئيس مجلس الوزراء، وذلك بعد أخذ رأي كل من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام، فضلاً عن رأي نقابتي الصحفيين والإعلاميين! في حين أن اللائحة صدرت بقرار من مكرم محمد أحمد وليس بقرار من رئيس مجلس الوزراء، وإن تم التحايل بالاسم، فأطلق عليها لائحة الجزاءات وليس اللائحة التنفيذية، وهو تحايل لا يخرجها من دائرة البطلان القانوني، بيد أنه من الواضح أن مكرم محمد أحمد كان مستعداً بحكم طبيعة شخصيته، للتحدي وقبول أن تنشر اللائحة وهي تحمل توقيعه، لكن هل هي لائحة مكرم فعلا؟!
من كتب اللائحة؟
السياق العام، يؤكد أن تجريم العمل الصحفي والإعلامي هو سياسة سلطة ونهج نظام، بل أكاد أمسك برقبة من كتب اللائحة من خلال صياغتها، وأظنه هو المستشار مجدي العجاتي، الوزير السابق، والقاضي السابق بمجلس الدولة، وهو ذاته الذي أوكل إليه السيسي مهمة وضع القوانين المثيرة للجدل، والتي صدرت منذ الانقلاب العسكري إلى الآن، وهو من ترأس لجنة العشرة التي وضعت مشروع الدستور الحالي. وعندما يكون هو من يضع هذه اللائحة، فإنه ذاته "ترزي" القوانين الذين يستخدمه السيسي، لتحويل جينات الاستبداد لديه إلى نصوص قانونية!
تجريم العمل الصحفي والإعلامي هو سياسة سلطة ونهج نظام، بل أكاد أمسك برقبة من كتب اللائحة من خلال صياغتها، وأظنه هو المستشار مجدي العجاتي
في المادة الثانية من اللائحة، كان هذا النص: "تعد هذه اللائحة جزءاً من لائحة الترخيص التي يصدرها المجلس الأعلى للإعلام، كما تعد شرطا من شروط الترخيص الصادر عن المجلس الأعلى للإعلام، ويكون عدم الالتزام بها سببا لإلغائه"!
وهذا نص لا تنتجه إلا عقلية العجاتي، "ترزي" القوانين للمرحلة، والذي كنت أعتقد بإخراجه من الوزارة قد غادر لمنزله، لكن من الواضح أنه لا يزال في خدمة الاستبداد، بعد مرحلة قديمة كان فيها الرجل منحازا للحريات ونصيراً لها في أحكامه، لكن سبحان من يغير ولا يتغير!
عندما قرأت النص، قلت إنه "العجاتي"؛ ذلك بأن له حكم قديم دار حول هذا المعنى، وهو الحكم الذي صدر بإلغاء ترخيص جريدة "النبأ"، بعد الأزمة الشهيرة الخاصة بقضية "الراهب المشلوح"، وهو الحكم الذي ألغته المحكمة الإدارية العليا بعد ذلك!
نحن أمام لائحة نظام مستبد، ومعاد للصحافة والإعلام، ويرى أن أفريقيا كلها تواجه تحديا بسبب مواقع التواصل الاجتماعي!
فالتخريجة القانونية في الحكم السابق، تحولت إلى نص لائحي، مع أنه لا يجوز للائحة أن تخالف القانون، فما هو القول وقد خالفت نصاً دستورياً، يمنع وقف الصحف أو إلغاء ترخيصها ولو بحكم قضائي؟!
فإلغاء الترخيص يدخل في باب سياسة العقاب الجماعي، عندما يرتكب مذيع أو صحفي مخالفة للائحة، فيكون هذا مبرراً لعقاب كل العاملين في الصحيفة أو القناة أو الموقع الالكتروني بإلغاء الترخيص، وهو أمر لم تكن تعرفه مصر منذ زمن بعيد. وعندما أوقف النظام جريدة "الشعب"، بتجميده حزب العمل، صدر 13 حكما متواترا من القضاء الإداري كتب معظمها المستشار "العجاتي"، تؤكد على عدم جواز وقفها، وإن كانت لسان حال حزب تم تجميده هو حزب العمل!
ومهما يكن، فنحن أمام لائحة نظام مستبد، ومعاد للصحافة والإعلام، ويرى أن أفريقيا كلها تواجه تحديا بسبب مواقع التواصل الاجتماعي!
فقل لائحة النظام.. ولا تقل لائحة مكرم!