هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تمر هذه الأيام الذكرى المئوية لثورة 1919 في مصر، التي شهدت نضال المصريين ضد المحتل البريطاني؛ حتى تنال البلاد حريتها.
وشهدت هذه الثورة مشاركة ما يزيد على 300 سيدة وفتاة في أول مظاهرة نسائية في تاريخ مصر الحديث، يطالبن بالاستقلال، ويهتفن بحياة الزعيم سعد باشا زغلول، ويدعمن الوفد المصري المشارك في مؤتمر باريس للسلام، ليفتحن بذلك الباب أمام مشاركة النساء في العمل العام.
أول مظاهرة نسائية
وفي هذا الإطار، قالت السيدة هدى شعراوي في مذكراتها: "لقد بدأ تنظيم أول مظاهرة نسائية مصرية في التاريخ الحديث في بيتي في صباح السادس عشر من مارس عام 1919؛ للتعبير عن الشعور الدفين والاحتجاج على تصرفات الإنجليز إزاء ما أصابوا به المصريين من قتل وتنكيل".
وتضيف: "اشترك في المظاهرة التاريخية سيدات وفتيات ينتمي معظمهن إلى الطبقة العليا، وعلى رأسهن زوجات الزعماء الذين رفعوا لواء المطالب الوطنية، وتم اعتقالهم ونفيهم، وكان من بين المتظاهرات من جئن من الأقاليم، وفي الميعاد المحدد، نظمت المتظاهرات أنفسهن وسرن في صفين منتظمين يحملن الأعلام الصغيرة، وطفن الشوارع الرئيسية هاتفات بحياة الحرية والاستقلال وسقوط الحماية، فقوبلن بالإعجاب و الحماس والتصفيق من الشعب الذي ردد وراءهن الهتافات في الوقت الذي انطلقت فيه زغاريد النساء من الشرفات".
تلك المظاهرة التاريخية تكررت مرة أخرى في 20 آذار/ مارس 1919، إذ سارت المتظاهرات رافعات الأعلام المكتوب عليها بالعربية والفرنسية عبارات الاحتجاج علي سفك الدماء، مطالبات بالاستقلال حتي وصلن إلي بيت الأمة، فحاصرهن البوليس والجنود الإنجليز، ولم يفك الحصار إلا بعد توسط القنصل الأمريكي، وأرسلن احتجاجهن إلي قناصل الدول".
وفي كتابها "المرأة المصرية"، قالت درية شفيق: "وبذلك نزلت المرأة إلي الشارع تؤازر الرجل وتشاركه في الثورة التي امتدت إلي كل مكان، ونالت المرأة فيها شرف الاستشهاد، وفي الريف عاونت المرأة الرجل في تقطيع أسلاك التليفون وخطوط السكك الحديدية، وفي الهجمات التي نظمت علي حجز المعتقلين في السجون".
مطالب اجتماعية وسياسية
وبحسب عبد الرحمن الرافعي، فإن من الأسماء التي وقّعت على أول بيان احتجاجي نسائي: "الآنسة كريمة محمود سامي البارودي"، وهدى شعراوي التي آثرت أن تذكر اسمها مقرونا بـ"حرم على شعراوي"، ووقعت صفية زغلول باسم حرم سعد زغلول باشا، وكذلك "حرم قاسم أمين" و"جولييت صليب".
بلورت مشاركة المرأة المصرية في ثورة 1919 مطالبهن في حقهن في التعليم حتى المرحلة الجامعية والعمل السياسي، وتكوين الأحزاب، والإسهام في دفع عملية التنمية والإصلاح، فتكونت لجنة الوفد المركزية للسيدات في 1920، وانتخبت هدى شعراوي رئيسة لها.
نساء لا تهاب الموت
وقال إسحق عبيد، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عين شمس، إن ثورة 1919 امتازت بأنها كانت ثورة شاملة شاركت فيها كل القوى السياسية ومكونات المجتمع المصري ضد الاحتلال البريطاني للبلاد، وللمطالبة بالاستقلال التام، فوجدنا فيها الفلاح بجوار الباشا والمرأة بجوار الرجل والقبطي بجوار المسلم، لا فرق بينهم؛ لأن الهم كان وطنيا وعاما ويشعر به الجميع، مشيرا إلى أن غطرسة القوة التي دفعت الإنجليز إلى نفي سعد زغلول ورفاقه كانت عاملا مباشرا لانفجار الثورة في ربوع مصر.
وأضاف عبيد، في تصريحات لـ"عربي21"، أن المرأة المصرية، ممثلة في سيدات الطبقة الارستقراطية مثل صفية زغلول وهدى شعراوي وغيرهن، بدأت تتلمس دورها في مقاومة الاحتلال، وفي مارس 1919 تحركت مئات السيدات في مظاهرة محدودة سرعان ما انتقلت عدواها بين سيدات الطبقة الوسطى وحتى الريفيات في الأقاليم.
ولفت إلى وصف المؤرخ عبد الرحمن الرافعي لمشهد المظاهرة النسائية حيث قال: "خرجت المتظاهرات في حشمة ووقار، وعددهن يربو على الثلاثمئة من كرام العائلات، وأعددن احتجاجا مكتوبا ليقدمنه إلى معتمدي الدول، طالبن فيه بإبلاغ احتجاجهن على الأعمال الوحشية التي قوبلت بها الأمة المصرية".
وأضاف: "ولكن الجنود الإنجليز لم يمكِّنوا موكبهن من العبور، فحين وصلت المتظاهرات إلى شارع سعد زغلول قاصدات بيت الأمة ضربوا نطاقا حولهن ومنعوهن من السير، وسددوا حرابهم إلى صدورهن، وبقين هكذا مدة ساعتين تحت وهج الشمس الحارقة، بل تقدمت هدى شعراوي وهى تحمل العلم المصري إلى جندي، وقالت له بالإنجليزية: نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك إلى صدري لتجعلني مس كافيل أخرى، فخجل الجندي، وتنحى للسيدات عن الطريق وجعلهن يعبرن".
و"مس كافيل" هي ممرضة إنجليزية، أسرها الألمان في الحرب العالمية الأولى، وأعدموها رميا بالرصاص، وأثار مقتلها ضجة كبرى وتعاطفا عالميا.
وأضاف إسحق عبيد أن الحركة النسائية التي اندلعت شرارتها في ثورة 1919 قدمت أول شهيدتين، هما السيدتين حميدة خليل وشفيقة محمد، وهو ما أجبر رجال الوفد على تغيير قناعاتهم وسمحوا بخروج المرأة للعمل العام بعد أن فرضت وجودها على الأحداث.
التطور مستمر
وأكد إسحق عبيد أن هذه الروح الوطنية الهادرة غمرت المرأة المصرية وحررتها من كثير من القيود التي كانت مكبلة بها، وحيث بدأت المرأة الدراسة في الجامعة وشاركت بقوة في العمل العام، وبدأ الوعي السياسي يتسرب للنخبة السياسية النسوية.
وتابع: استمر التطور السياسي للمرأة حينما عقد في كانون الأول/ ديسمبر 1919 اجتماع نسائي بزعامة هدي شعراوي بالكاتدرائية المرقسية بالقاهرة، ليبرهن على الوحدة الوطنية التي كانت أحد أبرز مشاهد ثورة 1919، وفي هذا الاجتماع أصدرن بيانا يحمل رأيهن في الموقف السياسي الراهن، وعبرن فيه عن معارضتهن لوزارة يوسف وهبة ولجنة ملنر، وأعلن تأييد مقاطعة لجنة ملنر، والتمسك بالاستقلال التام عن بريطانيا.
كما رفعت النساء في اجتماع الكاتدرائية مطالب المرأة المصرية التي شملت السماح بتعليم البنات حتى الجامعة، والمطالبة بمشاركتهن في العمل السياسي وتشكيل الأحزاب السياسية.
وحول وضع المرأة في المجتمع المصري في الوقت الجاري، قال إسحق عبيد، إن دور المرأة في المجتمع لم يشهد طوال المئة عام التي أعقبت ثورة 1919 تطورا كبيرا، على غير المتوقع، مشيرا إلى أنه على الرغم من تولي المرأة العديد من المناصب الرسمية، إلا أن هذه المناصب تمنح ليس عن اقتناع بكفاءتها، ولكن حتى تزعم الأنظمة المتعاقبة أنها تناصر المرأة، حسب قوله.
واختتم تصريحاته بالتأكيد على أن المرأة عليها نصف العبء والمسئولية والواجب الوطني لمواجهة التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجهها البلاد، طالما أنها تكوّن نصف المجتمع ولا فرق بينها وبين الرجل.