هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشطت دار الإفتاء المصرية، عقب تنفيذ أحكام الإعدام ضد تسعة شباب من جماعة الإخوان المسلمين، في مهاجمة الجماعة ووصفها بأنهم "خوارج العصر". ووفقا للصورة التعبيرية، فقد تم تصوير الإرهابي بأنه ذلك الرجل صاحب اللحية، ويرتدي قميصا (جلابية)، الأمر الذي يشبه الأفكار العلمانية في تصويرها لـ"الإرهابيين"، مما يثير التساؤل عن مدى السلامة العقلية للقائمين على الحملة، خاصة أن أغلب أعضاء الأزهر والأوقاف والإفتاء يظهرون بهئية شبيهة بتلك الهيئة المصَوّرة.
بعيدا عن تلك الصورة التعبيرية المسيئة، فإننا إزاء انزلاق شديد الخطورة من الهئية الأمينة على دين المصريين ووجدانهم، وأمام انحراف عن أحد غايات الدين العظمى الذي يبغي الائتلاف لا الفُرقة، وصاغ النص القرآني تلك الغاية في مواضع عديدة منها: "فأصبحتم بنعمته إخوانا"، فقرَن المولى روح الأخوة بتفضله وإنعامه، ومنها قوله تعالى: "وأَلَّفَ بين قلوبهم. لو أنفقتَ ما في الأرض جميعا ما ألَّفْتَ بين قلوبهم ولكن اللهَ ألَّفَ بينهم".
فإذا كان مفتي الديار المصرية ومساعدوه لا يدركون تلك الغاية، فاعتزال الناس وكف اللسان عن الإفتاء أولى لهم، فمن أهم شروط الاجتهاد "الفطنة". ويبدو أن من قام على تلك الحملة عدِمَها تماما، ثم يأتي على جانب آخر مدى انطباق وصف الخوارج على جماعة الإخوان. وهنا، نجعل الرد من وحي اجتهاد "كبار علماء الأزهر" على لسان فضيلة الإمام الأكبر، الشيخ أحمد الطيب، في بيان تلاه نهاية تشرين الثاني/ أكتوبر 2011، "وقت عافية الثورة" جاء فيه:
"أولا: تعتمدُ شرعية السُّلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية على رضى الشُّعوب، واختيارها الحرّ، من خلال اقتراع عَلَنِى يَتمُّ في نزاهة وشفافية ديمقراطية، باعتباره البديل العصري المنظِّم لما سبقت به تقاليد البَيْعَة الإسلامية الرّشيدة، وطبقا لتطوُّر نُظُم الحكْم وإجراءاته في الدّولة الحديثة والمعاصرة، وما استقرَّ عليه العُرف الدستوري من توزيع السُّلُطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والفصل الحاسم بينها، ومن ضبط وسائل الرّقابة والمساءلة والمحاسبة، بحيث تكون الأمّة هي مصدر السُّلطات جميعا، ومانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة.
وقد دَرَجَ كثيرٌ من الحكّام على تعزيز سلطتهم المطلقة مُتشبِّثينَ بفهم مبتور للآية القرآنية الكريمة: "وأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" (4/59)، متجاهلين سِيَاقَها الواضح الصريح في قوله تعالى قبل ذلك في الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ" (4/58)، ممّا يجعل الإخلال بشروط أمانة الحكْم وعَدَم إقامة العدل فيه مُسَوِّغا شرعيّا لمطالبة الشعوب حكامهم بإقامة العدل، ومقاومة الظلم والاستبداد، ومن قال من فقهائنا بوجوب الصبر على المتغلب المستبد من الحكام حرصا على سلامة الأمة من الفوضى والهرْج والمرْج، فقد أجاز في الوقت نفسه عزل المستبد الظالم إذا تحققت القدرة على ذلك، وانتفى
ةاحتمال الضرر والإضرار بسلامة الأمة ومجتمعاتها.
ثانيا: عندما يرتفع صوت المعارضة الوطنية الشعبية والاحتجاج السِّلمي، الذى هو حقٌّ أصيلٌ للشُعوب لتقويم الحكّام وترشيدهم، ثم لا يستجيب الحكّام لنداء شعوبهم، ولا يُبادرونَ بالإصلاحات المطلوبة، بل يُمْعِنونَ في تجاهل المطالب الوطنية المشروعة التي تنادي بالحرية والعدالة والإنصاف، فإن هؤلاء المعارضين الوطنيين لا يُعَدُّون من قَبيل البُغاة أبَدا، وإنّما البُغاة هم الّذين تحدَّدت أوصافُهم فِقهيا بامتلاك الشَّوكة والانعزال عن الأمَّة، ورَفع الأسلحة في مواجهة مخالفيهم، والإفساد في الأرض بالقُوّة، أمّا الحركات الوطنية السِّلميّة المعارضة، فهي من صميم حقوق الإنسان في الإسلام التي أكّدتها سائر المواثيق الدّوليّة، بل هي واجب المواطنين لإصلاح مجتمعهم وتقويم حُكّامهم، والاستجابة لها واجبٌ على الحكّام وأهل السُّلطة، دونَ مُراوغةٍ أو عنادٍ".
إذا، وفقا لكبار علماء الأزهر وبتلاوة شيخ الأزهر، فإن "المعارضين الوطنيين السلميين" لا يعدّون من قبيل الخوارج، وجماعة الإخوان تنبذ العنف وترفضه، ومعلوم موقفها منه طوال ممارستها للسياسة منذ نهاية السبعينيات ودخولها للبرلمانات منذ منتصف الثمانينيات، وتوجّه أفراد أو جماعات منها ناحية العنف، تصرف مفهوم في ظل حالة القمع والقتل الواسع التي قامت بها الدولة.. أقول تصرف مفهوم، لكنه يظل غير مقبول، وقامت الجماعة برفض ذلك المسار بشكل قاطع، يعلمه ويدركه النظام المصري جيدا، لكنها عادة التدليس الأصيلة في سلوكهم، كما أن طبيعة الانقلابات العسكرية أنها ترتكز على العنف، فمن البدهي أن يقابل عنف الدولة عنف من المتضررين منه، وأين كانت مساحة العنف قبيل الانقلاب العسكري في مصر؟ بل حتى أثناء الثورة مطلع 2011؟ كان العنف والإرهاب على طول الخط من جهة الدولة.
إننا نجد أنفسنا، وفقا لبيان الأزهر، نصرف وصف البغاة والخوارج إلى قادة الانقلاب العسكري، فهم الذين امتلكوا "الشَّوكة والانعزال عن الأمَّة، ورَفع الأسلحة في مواجهة مخالفيهم، والإفساد في الأرض بالقُوّة"، وداعموهم من المشائخ والوعاظ والدعاة مشتركون معهم في جرمهم وآثامهم.
لم يكتفِ بيان الأزهر والمثقفين لدعم إرادة الشعوب العربية بإثارة هذه المسائل، بل انصرف إلى فعل الحكام أيضا، واعتبر أن "مواجهة أي احتجاج وطني سِلمي بالقوّة والعُنفِ المسلَّح، وإراقة دماء المواطنين المسالمين، نقض لميثاق الحكْم بين الأمّة وحكّامها، ويُسقِطُ شرعيّةَ السُّلطة، ويهدر حقَّها في الاستمرار بالتَّراضِي، فإذا تمادتِ السُّلطةُ في طُغيانها، وركبت مركب الظلم والبغي والعدوان واستهانت بإراقة دِماء المواطنينَ الأبرياء، حِفاظا على بقائها غير المشروع -وعلى الرغم من إرادة شعوبها- أصبحت السلطة مدانة بجرائم تُلَوِّثُ صفحاتها، وأصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عزل الحكام المتسلطين وعلى محاسبتهم، بل تغيير النِّظام بأكمله، مهما كانت المعاذير من حرص على الاستقرار أو مواجهة الفِتَنِ والمؤامرات، فانتهاكُ حرمة الدَّم المعصوم هو الخطّ الفاصل بين شرعية الحكم وسقوطه في الإثم والعدوان. وعلى الجيوش المنظّمة -في أوطاننا كلِّها- في هذه الأحوال أن تلتزم بواجباتها الدّستورية في حماية الأوطان من الخارج، ولا تتحوّل إلى أدواتٍ للقمع وإرهاب المواطنين وسفك دمائهم؛ فإنه "مَن قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا (5/32)".
إن الأزهر هاهنا يعطي للمقهورين حق إسقاط النظام (بالطرق السلمية) مهما كانت المعاذير من حرص على الاستقرار أو مواجهة الفتن والمؤامرات، كما تروّج الأنظمة المستبدة دائما، وقفز الأزهر قفزة واسعة بدعوته الجيوش إلى ألّا تتحول إلى أدوات للقمع وإرهاب المواطنين وسفك دمائهم. وهذه الوثيقة آية واضحة في بيان حال الأزهر عند عافية المجتمع، كما أن موقف الإفتاء المخزي كاشف لحال الخزي والتبعية عند ضعف المجتمع، رغم أن المفترض أن يكون نبراس الدعاة قول ربنا: "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله"، لكننا في ذلك الموقف أمام خشية الحاكم أو تملّقه، وهؤلاء لا يؤتمنون على أديان الناس وتصحيح عبادتهم، كما أنهم داعشيون في التعامل مع المخالف، ويبررون قتلهم بتبرير ديني، فاستخدموا أجلّ وأقدس النصوص، لأخسّ الغايات، سواء على مستوى النظام الدموي، أو على مستواهم الشخصي بابتغاء الحظوة لدى سلطان فاسد دموي، أو اتقاءه، صحيح أن الجبن فطرة بشرية. لكن الجبان معذور إذا سكت، أما إذا تكلم وبرر قتل الأنفس فلا عذر له. وقد تعلمنا في رحاب الأزهر الشريف أن الإكراه لا يجوز في القتل، فلا يمكن لأحد أن يبرر جبنه بالإكراه، هذا إذا كان جبانا، ولا يستحل سفك الدماء بالزور.
إن الأزهر الشريف منذ بدء إراقة الدماء عقب الانقلاب العسكري، وهو يقف موقفا انعزاليا عن الانخراط في الخصومة السياسية، ولم يصدر عن الأزهر بيان يشير إلى جماعة معارضة بالاسم، وهو ما يبين الفارق بين الشيخ أحمد الطيب وبين المرشحين لخلافته، خاصة مفتي الجمهورية الحالي شوقي علام، أو المفتي السابق بذيء اللسان علي جمعة، وهو المروّج لتلك الأفكار بشكل أساسي، ولا يمكن إغفال تناسب بذاءة لسانه (كما بدا في المكالمة المشهورة) مع بذاءة أفكاره وتوجهاته.
في ختام هذا البيان الذي يستحق أن يُكتَب بماء الذهب، وأن يدرّس في المحافل العلمية، خاصة لهواة ومتملّقي دار الإفتاء، بيّن الأزهر أن مآل القمع إلى زوال، وناشد "علماء الأزهر والمثقّفون المشاركون لهم النّظم العربيّة والإسلاميّة الحاكمة الحرص على المبادرة إلى تحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي والدستوري طَوْعا، والبَدْء في خَطَوات التّحوُّل الدِّيمقراطي، فصَحْوَةُ الشّعوب المضطهدة قادمة لا محالةَ، وليس بوسع حاكمٍ الآنَ أن يحجبَ عن شعبه شمس الحريّة. ومِن العار أن تظلَّ المنطقة العربية وبعض الدول الإسلامية قابعة دون سائر بلاد العالم في دائرة التّخلُّف والقَهْر والطُّغيان، وأن يُنسَبَ ذلك ظُلما وزورا إلى الإسلام وثقافته البريئة من هذا البُهتان، كما يتعيَّن على هذه الدُّوَل أن تشرع على الفَوْر في الأخذ بأسباب النّهضة العلمية والتّقدُّم التكنولوجي والإنتاج المعرفي، واستثمار طاقاتها البشريّة وثرواتها الطبيعية خِدمة لمواطنيها، وتحقيقا لسعادة البشرية كلِّها".
أما هؤلاء الذين يُقتلون على يد الأنظمة المستبدة، فنرجو لكل بريء منهم أن يكون من السادة لا البغاة، مصداقا لقول رسول الله: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقلته".