ثمة عدد كبير من الطيور والزواحف وصغار الحيوان تتعيَّش على تنظيف أجساد الحيوانات الضخمة؛ مثل: الفيل ووحيد القرن والتمساح وغيرها. لقد اقتضت الحكمة الإلهية حفظ وجود هذه الحيوانات الضخمة، وما انقرض من قبلها؛ بمثل هذه المخلوقات الصغيرة التي تتعيَّش على البقايا والفضلات. فكأن هذه المخلوقات الصغيرة قد سُخِّرت للحفاظ على التوازن البيئي داخل الدائرة المحددة للحيوان الضخم؛ إذ تتعيَّش هذه المخلوقات حرفيّا على رعاية الوحش الذي أُوْكِلَت به. فلا تبدأ معاناة التمساح - مثلا - إلا حين يفتقد للطائر الصغير الذي ينظف له فكّه بأكل البقايا العالقة فيه، فإن عدم إزالة هذه البقايا وتعفُّنها سيقضُّ مضجع الفك المتوحِّش، وقد يودي به فعليّا.
كذا تتسم جاهليَّات البشر بوجود فصائل مماثلة (من "صغار" البشر) تتعيَّش على فضلات الوحوش من "بني آدم"، زُرافات ووحدانا. يتعيَّشون على التقاط فضلات الطبقات والمجتمعات والدول، ويقتاتون عليها حرفيّا؛ سواء كانت فضلات أخلاقيَّة وقيميَّة، أم كانت فضلات ماديَّة عينيَّة من بقايا ما لا يرضاه الملأ لإطعام حيواناتهم.
وكلَّما تضخَّمت فضلات الطبقة/
المجتمع/ الدولة، كان ذلك علامة على ازدياد طغيان الملأ وانحلالهم. إن تضخُّم طبقة آكلي الفضلات (في الداخل والخارج) يعني كذلك اهتراء الرابطة الاجتماعية التي تجعل من هذا التجمُّع البشري مُجتمعا إنسانيّا؛ يُمسك به قدر من التجانس والتلاحُم والتراحم الإنساني. لكن تظل تلك الروابط المهترئة عالقة بخيط رفيع (طال الزمن أم قَصُر)، ولا تبدأ المجتمعات والدول بالانهيار، إلا حين يرغب آكلو الفضلات هؤلاء عن حثالات الطعام، ويعمدون للبحث عن طعامهم على موائد الملأ. وهو ناموس كوني في الحالة البشريَّة؛ لاختلاف البشر في الأصل والفطرة عن الحيوان. وبعد أن كانت الطبقة التي تتعيَّش على الفضلات، تكتفي بما تلتقط من الفتات والبقايا، إذا هي (في نقطة معينة) قد بلغ بها الاستفزاز مداه حتى تنزع إلى مشاركة الملأ في كل شيء؛ فتمرض الوحوش (الملأ) وتسمن الطفيليَّات (آكلة الفضلات).
إذ على عكس عالم الحيوان؛ فإن الإنسان بحكم التكريم الإلهي الذي ناله، والمساواة الفطريَّة بينه وبين أخيه الإنسان، التي تنزَّلت الشرائع الإلهيَّة لترسيخها؛ لا يرتضي في الأصل اقتيات الفضلات أنفة، ومن ثم فهو ليس مُيسَّر فطرة وجبلة للتغذي عليها (كصغار الطير والحيوان) إلا كراهة واضطرارا، وبصورة مؤقتة. وهو يتطلَّع دوما لما فوقها من أرزاق الملأ، الذين مرقوا من الشرع فحرموه حقَّه تقويضا للمساواة الربانيَّة المجبولة- المفروضة.
وإذا كان اعتياد آكلي الفضلات من البشر على ما ينالون من البقايا خطوة طبيعيَّة (مُبررة ومفهومة تاريخيّا وإن خالفت الفطرة)، لتخليص المجتمع الجاهلي من قدر كبير من فضلاته القيمية والمادية سواء بسواء؛ إلا أن تطبيع أكل الفضلات، وتحوله لعادة اجتماعية تتعيَّش عليها طبقة يزداد حجمها يوما بعد يوم (بازدياد طغيان الملأ) مؤشر خطر إنساني جسيم ونذير انفجار اجتماعي وشيك. إذ تُنبئنا التجربة التاريخيَّة بأن الطبقة المستضعَفة التي تضخَّمت من التغذي على البقايا، ستبدأ (في نقطة معينة) بمدّ يدها لمائدة الملأ الذين يستفزونها علنا (وبصورة مستمرة) باستعراض ما ينالون؛ خصوصا إذا ما تأخر القوت الهزيل وتعطَّل وصول فضلات الملأ إلى بطون المستضعَفين الجائعة. آنذاك لن يعود "المحرومين" بقادرين على الاكتفاء بالأفلام الإباحية التي يُنتجها الملأ لتخديرهم؛ بل سيرغبون في نسائهم مباشرة. وهي الرغبة التي تقوِّض بنية المجتمع الجاهلي باتساع نطاق تحقُّقها. فكلما تحقَّقت مرَّة؛ طُعِنَت هيبة ذئب بشري من ذئاب الملأ، ليمرض وينفق؛ فتسمن على جثته إحدى "الطفيليَّات" حتى تصير قُبَّرة مستذئبة أو مسخا مستذئبا من نوع آخر. ورغم أن هذا النوع من "الطفيليَّات" المستذئبة أقصر عمرا وأقل "أصالة" في توحُّشه، وأقل بُعدا عن "أصله" الطفيلي وأكثر بُعدا عن إنسانيته؛ إلا أن بروزه وتسلقه السلم الطبقي بهذه الطريقة الحيوانية يعني التحطُّم الحتمي للمجتمع/ الدولة إنسانيّا، ولو ظلَّت الأمارات الخادِعة للوجود الاجتماعي الظاهري ماثلة للعيان بعض الوقت.
فهكذا يأكل المجتمع الجاهلي نفسه، باختلال التوازُن "البيئي" بين طبقاته؛ وهكذا ينهار. وهو انهيار لو تعلمون عظيم.