"الرئيس السيسى قال لي لا تبخلي على أولادك وعلميهم في الخارج".. جملة صادمة انتشرت على "الميديا" كالنار في الهشيم، حيث وردت على لسان وزيرة
الصحة المصرية. واختلف التناول الإعلامي للعبارة بين مؤيد ومستنكر، وكان من الطبيعى محاولة قراءة الجملة داخل السياق التي وردت به دون اجتزاء أو بتر للمعنى.
فى منتصف شهر كانون الثاني/ يناير الجاري، انتقلت كاميرات إحدى الفضائيات المصرية إلى ديوان وزارة الصحة في وسط القاهرة، حيث مكتب الوزيرة، وكان واضحا خلال الحوار مدى اهتمام المذيع بأهمية الفرصة التي أتاحتها له الوزيرة ليبدأ معها حوارا طويلا حول رؤيتها وخططها المستقبلية، والذي سبق وأعلنت أن 2019 "عام الفريق الصحي".
شمل الحوار عدة محاور، كان من أهمها تصريحات الوزيرة بأن السيسي وجهها نحو الاهتمام بأبنائها
الأطباء وإرسالهم للتدريب خارج مصر دون الخوف من نقص التمويل، وكان هذا هو سياق العبارة التي شغلت الرأي العام المصري، ولكن الأمر الغريب هو أن الوزيرة قد طلبت من الأطباء القيام بالتواصل الذاتي مع الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات
الطبية العالمية واختيار ما يناسب كل طبيب منهم، وتعهدت بأن الوزارة سوف تتحمل كافة تكاليف السفر للتدريب بالخارج!! سألها المذيع باستغراب عن العدد المتاح سفرهم من الأطباء، فأجبات ببساطة: أي عدد؟! لأن السيسى أخبرها بعدم وضع تحدى التمويل أمامها بالنسبة للأطباء، وهنا يبرز مدى التناقض بين قول الوزيرة نقلا عن السيسي؛ وبين واقع وزارة الصحة التي تعاني من نقص حاد في التمويل، حيث بلغت موازنة الصحة عام 2018/2019 مبلغ 62 مليار جنيه (تشمل 16 مليار نخصصات المياه والصرف الصحي) بما يمثل نسبة 1.2 في المئة فقط للصحة من إجمالي الناتج المحلي، بما يخالف نص المادة 18 من دستور 2014، والتي نصت على نسبة لا تقل عن 3 في المئة، وتزيد سنويا لتبلغ المستوى العالمي، حتى أن مبادرة 100 مليون صحة يتم تمويلها من خلال قرض أجنبي من البنك الدولي، لعدم وجود تمويل محلي، حيث تعاني جميع خدمات الصحة من مشكلة نقص التمويل.
وأعلنت الوزيرة أنها تهتم بالجانب البشري أكثر من المباني والتجهيزات، وبرغم فساد هذه الاستراتيجية، إلا أنه لا بد من وقفة واجبة لتحليل كلام وزيرة الصحة حول التدريب، خاصة وأنها أعلنت أنها شغلت مديرة مركز التدريب بمستشفى أورام الأطفال (57357) بالقاهرة قبل توليها الحقيبة الوزارية مباشرة.
ماذا يعني التدريب أو تنمية القوى البشرية؟ باختصار هو يبدأ بتحديد "الفجوة التدريبية"، وتعني الفرق بين كفاءة العامل وبين القدرات والمهارات المطلوب توفرها عنده لأداء العمل المطلوب، وذلك بقياس قدرات الطبيب ومؤهلاته وخبراته، وتحديد مقدار النقص فيها لاستكماله من خلال البرامج التدريبية، وهذا يعني أن تصريحات الوزيرة تشمل الكثير من العشوائية في التفكير وغياب دراسات الجدوى، مع تخبط واضح في إجراءات التنفيذ. تصريحات الوزيرة لا تعني باختصار سوى شعارات براقة بهدف اللقطة الإعلامية. ومثال تطبيقي لهذا؛ هو أن وزارة الصحة سبق وأن أعلنت أن نقص أطباء التخدير وفريق العناية المركزة يعتبر من أهم أسباب ظاهرة قوائم الانتظار، وكان الأولى بالوزيرة أن تعلن عن خطة واضحة لزيادة عدد الأطباء في تخصص التخدير، وزيادة تأهيل وإعداد فرق العناية المركزة في
المستشفيات.
ومن ناحية أخرى، فمن الواضح أن وزيرة الصحة لا تهتم كثيرا بإيجاد الحلول لمشاكل الأطباء الحقيقية، ومن أهمها:
أولا: توفير بيئة العمل الصالحة لتقديم الخدمة الصحية بكفاءة وجودة من خلال توفير المباني والتجهيزات والآلات والأدوات والمستلزمات والأدوية في إطار من القوانين واللوائح والنظم المناسبة، في حين يشكو الأطباء من النقص الحاد في كل هذه الأساسيات، مما يعوق قدرتهم على تقديم خدمة صحية مناسبة للمواطنين. وبرزت المشكلة بصورة حادة في نقص الأدوية والمستلزمات الطبية. وهنا، وبرغم أن الوزيرة تتحدث عن ضرورة أن يتعامل الأطباء بإنسانية، إلا أنه حين يضطر الأطباء لكتابة المطلوب ليقوم المرضى بشرائه من الصيليات الخارجية؛ فإن هذا يسبب لهم مشاكل كثيرة، لدرحة أن نقابة الأطباء قد أصدرت تعليمات لجموع الأطباء برفع أية مشكلة لإدارة المستشفى مباشرة.
ثانيا: توفير دخل مناسب لجميع أعضاء الفريق الطبي يكفل لهم حياة كريمة، وليس كما سبق وأعلنت الوزيرة بأنها تسمح للأطباء بالعمل في العيادات والمستشفيات الخاصة لزيادة الدخل، مع الاهتمام بساعات العمل الحكومية كاملة مقابل اللاشيء تقريبا، وذلك ردا لحق الوطن عليهم في التعليم، وهي مغالطة عاطفية تتغاضى عن فئات أخرى تحصل على أجور تزيد عدة أضعاف عن أجور الفريق الطبي.
ثالثا: تغاضت الوزيرة عن حق الأطباء في بدل العدوى المتناسب مع طبيعة عملهم، خاصة وأن وزارة الصحة قد استطاعت استصدار حكم من المحكمة بحرمان الأطباء من أية زيادة سبق وتم إقرارها لهم. ومن المعروف أن بدل العدوى للطبيب المصري هو 19 جنيها شهريا (ما يوازي دولارا واحدا شهريا)، في حين أن بدل العدوى للهيئات القضائية يتراوح بين ثلاثة وخمسة آلاف جنيه مصري شهريا. وكانت المحكمة قد حكمت عام 2016 بأحقية الأطباء في زيادة بدل العدوى، بحيث لا يقل عن ألف جنيه شهريا، ولكن وزارة الصحة رفضت التنفيذ وطعنت في الحكم، وتمت إعادة النظر بالقضية ليتم الحكم النهائي برفض اأية زيادة للأطباء إلا بقانون من مجلس النواب. وبالطبع، فقد أدى ذلك إلى حالة من الإحباط واليأس عند جموع الأطباء بسبب تعنت وزارة الصحة ضد حقوقهم المشروعة.
رابعا: توفير الأمن والأمان داخل المنشآت الصحية: حيث يتعرض الأطباء والفريق الصحي للعنف والضرب والإهانات المتكررة، سواء من المواطنين أو من المسؤولين، وحتى من وكلاء النيابة (واقعة مستشفى العاشر من رمضان 2018 والتي انتهت إلى الحكم على الطبيب بالحبس سنة بتهمة تعطيل مهمة النيابة) ومن أفراد الشرطة (حادث مستشفى المطرية 2016 والذي انتفض الأطباء بعده في أكبر جمعية عمومية حاشدة حضرها أكثر من ثلاثة عشر آلاف طبيب)، وكان آخرها ما تعرض له الأطباء في مستشفى أبو قرقاص المركزي بمحافظة المنيا يوم 20 كانون الثاني/ يناير الحالي، حيث تعرضوا لإهانات لفظية وتعسف سلطوى من رئيس الوحدة المحلية بالمدينة الهامة في الوجه القبلي بمصر.
خامسا: التدريب والتأهيل والدراسات العليا التخصصية: وهذه من أهم المشكلات الحقيقية التي تواجه الطبيب المصري؛ لأن مهنة الطب ليست كغيرها من المهن التي يمكن لصاحبها أن يعمل في مجاله بمجرد حصوله على المؤهل الجامعي، ولكن الطبيب يجب عليه الحصول على الدراسات العليا في تخصص معين حتى يرخص له بالعمل التخصصي. وفي حين يتخرج سنويا قرابة العشرة آلاف طبيب، إلا أن الفرص المتاحة للدراسات العليا في الجامعات لا تتجاوز الثلاثة آلاف طبيب فقط. ومن ناحية أخرى، وحلا لتلك المشكلة، فقد قامت الوزارة منذ حوالي عشرين عاما باعتماد درجة الزمالة المصرية، وهي شهادة مهنية تم الاعتراف بها في الكثير من دول العالم ولكن تم إلغاؤها عام 2016 واستبدالها بنظام جديد اسمه شهادة البورد المصري، وما زالت غير محددة المعالم حتى الآن، وفي حين تتحدث وزيرة الصحة عن إرسال الأطباء في بعثات تدريبية خارجية بحسب رغباتهم، إلا أنها في الوقت نفسه وقفت عاجزة نحو توفير مجالات التدريب لأطباء الصحة في الجامعات المصرية، وزادت الوزارة في تحميل الأطباء المزيد من الأعباء، وأنشأت ما يسمى بهيئة التدريب الإلزامي للأطباء، وتقضي بإجراء امتحان للطبيب بعد تخرجه حتى يمكن له العمل في وزارة الصحة، في إجراء غير مسبوق، ويعني ببساطة عدم الاعتراف بالشهادات الجامعية من كليات الطب المصرية.
وفى مؤتمر حضره السيسي في أيلول/ سبتمبر 2018، وبمناسبة وفاة عدد من مرضى الغسيل الكلوي في مستشفى ديرب نجم بمحافظة الشرقية، نتيجة مشكلة في صيانة الأجهزة، أعلنت الوزيرة أن أهم أسباب مشاكل مصر الصحية هو سفر الأطباء إلى الخارج بنسبة تجاوزت 60 في المئة من إجمالي عدد الأطباء المصريين، وبعدها صدرت تصريحات رئيس الوزراء بمنع منح الأطباء موافقات السفر للخارج إلا بتوقيع الوزيرة شخصيا، كوسيلة للحد من هجرة الأطباء، مما أدى إلى تقديم عدد كبير من الأطباء بطلبات الاستقالة من وزارة الصحة، لتزيد المشكلة وتتفاقم حدتها. وكان الأولى بمجلس الوزراء أن يبحث في اسباب المشكلة وكيفية حلها، بدلا من إصدار قرارات تعسفية تزيد الطين بلة.. ومن الطريف الإشارة إلى أن وزيرة الصحة قد سبق لها وأقسمت بصيغة غير لائقة أمام أعضاء لجنة الصحة في البرلمان المصري؛ بأنها سوف تحاسب الأطباء عن مشكلة قوائم الانتظار، في حين أن الأطباء لا شأن لهم بتلك المشكلة ولا بأسبابها.
وأخيرا، جاءت التصريحات الوردية للمسؤولة الأولى عن الصحة في مصر، وهي تحمل معاني الدعاية الإعلامية وتعظيم دور السيسي بأنه صاحب التوجيهات والتعليمات، ووضع المحددات الصحية بحسب قولها، وذلك لرفع شأن الصحة والفريق الطبي، في حين أنه قد أعلن بوضوح في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2017 بقصر الإليزيه في فرنسا؛ أنه "ليست حقوق الإنسان هي الضائعة فقط في مصر، ولكن الصحة ضايعة والتعليم ضايع والإسكان والتوظيف ضايع".