عندما انطلقت
حركة فتح عام 1965 وحتى أيلول/ سبتمبر عام 1970، كان معناها يساوي "الكفاح المسلح" لا غير، بنموذجه الفدائي الذي اكتسب حينها هالة أسطورية. ولكن لم تمض سوى تسع سنوات على انطلاقتها، وخمس سنوات على توليها قيادة
منظمة التحرير، حتى غيّرت تفكيرها و"رأسها السياسي"... ففي عام 1974 اعتنقت فكرة التسوية، ومن يومها انتهجت سياسة "اللهم". وبعد الخروج من بيروت 1982، غادرت "البندقية"، وتماثلت مع "النعم" الذي ترجمته بصيغته الأجلى عام 1988؛ في ما أسمي حينها "هجوم السلام
الفلسطيني" والاعتراف بالمحرمات.
إذن من بين سنيها الأربع والخمسين، حملت فتح السلاح مدة 17 سنة فقط، أي كانت على علاقة بفكرة "الكفاح المسلح" ومحاولة "التحرير"، وعند النظر إلى حصاد التجربة، سنجد أن ذلك الكفاح المسلح لم يسجل نتائج ذات بال على صعيد تحرير التراب الوطني، وذهب أحد أهم دارسيه (د. يزيد الصايغ) في أطروحته الشهيرة؛ إلى أن الغايات التي سعى لتحقيقها ذلك الكفاح هي تحقيق الكيانية والهوية، أي لم يكن مكرسا لمهمة تحرير التراب. وكانت نتائجه على هذا الصعيد متواضعة، فقد فشلت تجربة بناء قواعد ارتكاز في الأراضي المحتلة من 1957 إلى 1970، ومع الخروج من الأردن، تم تقويض "القاعدة الآمنة" التي تمتعت بها. ومع الخروج من بيروت 1982 وخسارة آخر تواجد في دول الطوق، انقطع الأمل بإمكانية ""التحرير من الخارج". ومن الملاحظ أيضا، أن النقاط المضيئة في تجربة ذلك الكفاح المسلح، مثل تجربة الكتيبة الطلابية، أو "كتيبة الجرمق"، وبعض لجان القطاع الغربي، كانت دائما محاصرة وشحيحة الدعم، ولم يكتب لها الديمومة والاستمرارية، وتعرضت للتقويض مع سقوط قادتها ورموزها شهداء.
ذهب دارسو الهوية الفلسطينية إلى أن تكوينها الأساس انبثق من طبيعة صراعها مع الصهيونية، فلو لم تكن هناك صهيونية قبالتنا، لربما كان لدينا هوية من نوع آخر. وفي اعتقادنا، أن الهوية الفلسطينية بعد 1948 تأثرت بعامل ثانٍ لا يقل أهمية عن منشئها المتعلق بالصهيونية، ألا وهو تأثير المحيط العربي الذي كانت هوياته القطرية الجديدة بالتفتح والتبرعم، فتزامن ميلاد الهوية الفلسطينية مع تشكل الهويات القُطرية في المنطقة. بل إن الوجود الفلسطيني في المنافي التي تشكلت فيها فتح ومنظمة التحرير وباقي الفصائل؛ تأثر بالضرورة بعملية تشكل الهويات القطرية، وربما غدت نزعة "الفلسطنة" أشد غلوّا وتطرفا من باقي الهويات القطرية العربية. وقد ذهب أحد أهم علماء السياسة العرب المعاصرين (الأستاذ غسان سلامة)، في إحدى مطالعاته، إلى اعتبار حركة فتح كأشد حركة قُطرية في العالم العربي!!
من هنا، لا نستغرب أن احتكاك فتح الأشرس كان في قضية الحساب مع من ينازعها هوياتيا من العرب الأقربين، ولذلك رفعت شعارات مطرقة في القطرية مثل: "يا وحدنا" أو "القرار الوطني الفلسطيني المستقل" (كان القصد حينها المستقل عن سوريا، وهو نفس الشعار الذي رفعه قُطريو لبنان في وجه سوريا أيضا) أو "غزة - أريحا أولا"، قبل أن نسمع شعارات مشابهة في الجوار؛ نُسجت على موّال القُطرية الفلسطينية، مثل "الأردن أولا" أو "لبنان أولا". لذلك لا يصعب على الباحث أن يكتشف أن خبرة حركة فتح لم تكن خبرة "تحرير وطني"، بل "خبرة حروب أهلية"!! فالسلاح الفلسطيني في فترة السبعة عشر عاما الأولى (قبل أن يتم تحييده والتخلي عنه) تورط في حربين أهليتين كارثيتين: "أيلول الأسود" (1970-1971) في الأردن، ثم الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1982)، واستطرادا، الحرب مع سوريا على الأرض اللبنانية بالإنابة (1983-1988)، كما كان لموقف قيادة فتح الذي جانب الحكمة دور أساسي في ترحيل الفلسطينيين من الكويت، فضلا عن معاناة الجالية الفلسطينية في العراق أو ليبيا أو بعض دول الخليج، نتيجة المواقف التدخلية التي تنسب لتلك القيادة.
من هنا، وجدنا أن طبيعة السلطة التي شكلتها فتح إثر توقيع اتفاق أوسلو، تملك الخبرة والاستعداد الكامل كي تكون مكرّسة للاصطدام "مع الداخل" في أحشاء شعبها، وليس القيام بحمايته والاصطدام "مع الخارج"، أي مع العدو الوجودي. لذلك، وجدنا فتح منسجمة مع سياقاتها، وتتمتع بجاهزية الاشتباك منذ اليوم الأول، فلم يتورع عسكرها عن ارتكاب مجزرة مسجد فلسطين في شهور أوسلو الأولى (تشرين الأول/ أكتوبر 1994)، ثم ملاحقة المناضلين والمطلوبين للاحتلال وتسليمهم قتلا وسجنا، والانخراط مع قوات الاحتلال كتفا إلى كتف، في حرب شعواء ضد
المقاومة الفلسطينية باعتبارها "إرهابا" يجب ممارسته!! ولهذه السطور حول "فتح" وتجربتها بقية في مقال قادم.