عادةً ما تكون الرسائل الموجّهة من الطلاب إلى معلّميهم محفوفةً بالمجاملات، طالما أنّ العلاقة القائمة بين الطرفين أساسُها الودّ والاحترام، فترى الطالب على سبيل المثال يُزجي إلى معلّمه الذي يحبه عبارات التودّد والعرفان، ويحاول بشتّى السبل إسداء اليسير من المعروف الذي تَلَقّاه على مقاعد التلمذة بين يَدَي معلّمه..
ولأنني من مجتمع
المعلمين، فلستُ بالشاذ عن هذه القاعدة، إذ أتلقى من طَلَبَتي الذين أصبحوا اليوم شباباً أشدّاء بين الحين والآخر رسائل من هذا القبيل، فقد ربطتني بهم علاقة الصداقة أكثر ممّا ربطتني عصا المعلم، ولا سيما أنني ابن شهر أيلول/ سبتمبر، الفاتح للعام الدراسي في كل سنة..
لكنّ رسالةً وصلتني منذ أيام أقضّت مضجعي، لا أعلم حتى اللحظة لماذا، ربّما لأنها خرجت عن المألوف وحملت بين ثناياها ملامح العتاب واللوم الشديدين، أو لأنها مُحِقّة في كل حرفٍ من حروفها، فصاحبُ الحق سلطان، حتى لو كان طالباً وخصمُه المعلم..
رغبتُ في نقل الرسالة إليكم بعد أن استأذنت صاحبَها الذي وافقَ على ذلك بشرط عدم ذِكر اسمه الصريح، لأترك الحكم لكم في هذه الموقعة التي دارت رحاها بين طالبٍ أصبح اليوم في السنة الخامسة في كلية الهندسة، يلملم أوراق تخرّجه للمُضِيّ قدماً نحو مستقبلٍ عميق، ومعلّمه عبدالسلام فايز الذي كان يدخل على حصته الدرسية مدة ثلاث سنوات..
لم تكن رسالةَ شُكرٍ قط، ولا رسالةَ وئامٍ، بل رسالة تقريع وتلقين، رغم مَطلعِها الرومانسي الذي خدعني وخدّرني بُغيةَ الانقضاض عليّ وأنا في وضعيّةٍ لا أُحسَد عليها..
وهذا هو نص الرسالة بعد تصويب ثلاثة أخطاء واردة فيها..
"أستاذي عبد السلام فايز، أبا صهيب.. معذرةً إذا فاجأتك كلماتي، أو خرجت عن المألوف، لأنني أنا صاحب الحق هذه المرة..
لا أخفي عليك مدى احترامي وتقديري لك، ومحبتي العظمى التي قرّت في قلبي تجاهك، بعد أن أحببتُ اللغة العربية بفضلك، فوالله كنت أنتظر حصتك بفارغ الصبر، لأنني أستمتع بها، وأشعر أنني أمام صديقٍ أو أخٍ كبير، وليس أمام معلمٍ صارم لا همّ عنده سوى فرض شخصيته بالقوة، لِيُشار إليه بالبنان.
ما زلت أذكر كيف كنتَ تُمتُعنا بالدرس، فلا نشعر بمرور الوقت، وأنتَ المدرّس الوحيد الذي كنتُ أحزن كثيراً عندما تتغيّب عن حصّتك، بعكس بعض المدرسين الذين كنا نقيم الأفراح لغيابهم.
حتى درس الخط العربي الذي كان مدرّسو الضاد يحذفونه من جدول أعمالهم، نجحتَ في جعلهِ أفضل من درس القواعد، عندما كنت تقسم السبورة إلى ثلاثة أقسام بعدد مجموعات الصف، وتبدأ الانتخابات لاختيار ممثل للمجموعة، فيقوم المرشحون الثلاثة بتدوين العبارة المنتقاة على السبورة بخط الرقعة، ليفوز بعدها واحد من الثلاثة، وتنال المجموعة كاملة درجتين إضافيتين..
نعم أحببناك وأحببنا اللغة العربية بسببك.. ولأنني أحببتُك، فمن حقي أن تصغي للقسم الآخر من هذه الرسالة..
أتابع أخبارك في بلاد المهجر، والتفوق في حياتِك واضحٌ بيّن، ولكنْ لديّ بعض التساؤلات التي لم أجد لها جواباً، وربما لن تجد أنت لها جواباً أيضاً..
صُعِقتُ كثيراً عندما تلقّيتُ نبأ رحيلك عن أرض الوطن، ليس على فراقك فقط، رغم أنّ هذا الفراق هو أحد الأسباب طالما أحببناك بصدق، بل لأنني عدت بالذاكرة إلى الوراء كثيراً، عندما كنتُ طالباً بين يديك على مقاعد الدراسة وكان الدرس آنذاك بعنوان (رجالٌ في الشمس) وهي رواية للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني يتطرق فيها إلى مسألة الخروج من الوطن، لإيجاد حلول شخصية تتعلق بالفرد دون المجتمع..
علّمتنا وقتها ما معنى الوطن، وحب الوطن، والتشبّث به، وعدم الخروج منه مهما كان الثمن..
قرأتُ في عيونِكَ وقتها وأنت تشرح، صِدْقَ النوايا، وإخلاص المعلم، وشعرتُ بأنك مُحِبّ لوطنك أكثر من أي شخص آخر..
كان كلامك وقتها كالسحر، ومنذ ذلك الحين وأنا أحب وطني، وأعتز به، وأتشبّث به.. منذ ذلك الحين وأنا أعيش على المبدأ الذي لقّنتنا إيّاه على مقاعد الدراسة..
في كل مناسبة كنتَ تؤكد على هذا الأمر، وفي كل مرة كان الحب يكبر في قلبي لوطني، حتى اتخذتك قدوة لي في هذا المجال، وما تزال وقفتك في الصف آنذاك وأنت تشرح لنا رواية غسان كنفاني خالدةً في مخيّلتي، إذ أنّكَ كنت من المهرة الذين أوصلوا الرسالة بشكل يليق بحجم هذا الوطن..
كنتَ تُعِيب على شعراء المهجر الذين تركوا الأوطان طواعيةً، وراحوا يتغنون به من بعيد، وتصفهم بأنهم سكارى الشعر، تركوا أوطانهم وراحوا يكتبون الشعر من وراء البحار، ويتغنون به، وتقول لنا: هؤلاء هم باعة الأوطان، باعوه بثمنٍ بخس ودراهم معدودة مقابل حياة أفضل، وكأن الوطن عبارة عن غرفة نوم يبدلونها كلما سنحت لهم الفرصة..
هذه الكلمات وأخواتها لم تكن بالنسبة لي مجرد شعارات صفية، بل كانت درساً صعباً تعلمته وأخذته على محمل الجد وجعلته لي شعاراً يُحتذى به في حياتي كلها..
واليوم.. أين أنت؟؟
أين الأستاذ عبد السلام الذي علّمنا حب الوطن؟
أينَ قدوتي في هذا المجال؟؟
أينَ مَن زرع في نفوسنا محبة الأوطان، وكانَ لنا خير دليلٍ في هذا السياق؟
إنه مضى مع قافلة المهاجرين، اجتاز البحار والغابات تاركاً خلفه غبار الوطن المتناثر بفعل الحرب هناك، حاله حال أبطال الرواية الكنفانية الذين تقطعت بهم السبل، مضى وترك الوطن وراءه دون أدنى شعور بالمسؤولية، مضى وترك وراءه الطلاب والمدارس وكأنه يقول أنا ومن بعدي الطوفان..
نهانا عن خُلُقِ الغربة، ولكنّه أتاه بعدما حزم حقائبه لينجو وحيداً، بذريعة أنّ الخطر بدأ يداهم طلائع منزله، وراح يحث الخطا نحو مستقبلٍ ينجيه وينجي أولاده وزوجته من الخطر المحدق، وكأنّ تلك الدروس كانت مجرد حبر على ورق، فيترك الطلبة ويمضي..
واليوم وبعد أن تخرّجت من كلية الهندسة، يحدثني والدي بالرحيل بحثاً عن حياةٍ أفضل، ولكنني أقول له في كل مرة بأنّني لن أخرج، وليحصل ما هو حاصل، فالوطن أصبح في درس الأستاذ عبد السلام ذا طعمٍ آخر، أحبه ولن أتخلى عنه.
فيجيبني والدي ساخراً: "إذا الأستاذ اللي عم تحكي عنو هج وسافر وترك الجمل بما حمل، وجاي انت تقلي وطن وما بعرف شو..".
ربما جوابه كان ملجماً إلى حدّ بعيد، لكنني سوف أعاهدك يا أستاذي أنني سأبقى تحت سقف ما علّمتني إياه، وما زرعته في نفسي وما لقّنتتي إياه، حتى لو تخلّيت أنت، وكلي ثقة بأنك ستعود لتواصل مسيرتك
التعليمية التي كانت ناجحة إلى حدّ بعيد..
لتعد يا أستاذ، فالأجيال بحاجة اليوم إلى طريقتك في شرح رواية غسان كنفاني، لعلهم يتشبثون كما تشبثت أنا، وما تشبثتُ أنا إلا لأنني طالبٌ بين يديك..".
طالبُك المهندس....