يا إلهى .. نفس المسرحية الهابطة المُمِلة .. ولكن بإخراجٍ أكثر رداءةً .. وبممثلين لا يعرفون من هذا الفن الراقى إلا دور محجوب عبد الدايم .. ألَّا يجددون؟ أَلَا يتعظون؟ أَلَا يستحون؟
يقول المثل المصري (أول الرقص حنجلة) .. وقد بدأت الحنجلة المُمَهِدة لواحدةٍ من أشهر الرقصات في الفولكلور السياسي المصري والعربي .. رقصة التمديد للرئاسة الأَبَدية .. التي حفظناها عن ظهر قلب.
ما أن يجلس الحاكم على كرسي الرئاسة في بلادنا حتى يفقد الذاكرة .. ذاكرته وذاكرة الكرسي .. فينسى كل ما قاله عن زُهده فى المنصب والمغادرة إذا طُلِبَ منه ذلك .. وينسى تاريخ الكرسي اللعوب مع كل من سبقوه .. فيَشرَع فى الخطوات المحفوظة على نفس الطريق المُجَّرَب .. يكمم الأفواه .. وينشر الرعب .. ويعصف بالمنافسين .. ويهين الدستور والقانون .. وهكذا .. ثم يُوعِز إلى بعض المتحنجلين ليعزفوا المقدمة الموسيقية لرقصة التمديد .. وبعضهم جاهزون بدون إيعاز .. وفى حالة حنجلةٍ دائمةٍ .. ويتحرقون شوقاً لبدء الرقص.
تَحَّسَب واضعو الدستور الحالي لهذا المرض المتوارث .. فلم يكتفوا بتضمينه مواد تاريخية تتعلق بفترات الرئاسة ومُدَدِها ونشر الذمة المالية للرئيس وإخضاعه للمحاسبة .. ولكنهم أضافوا مادةً واضحةً لا لَبْسَ فيها وهى المادة 226 التي تحظر أي تعديل خلال فترة الرئيس الحالي بالذات، ونصت على أنه (لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقاً بالمزيد من الضمانات) .. ووافق عليها الشعب وأقسم الرئيس الحالي على الالتزام بها .. لكن على مين يا أصحاب النوايا الحسنة؟ .. ها هم بعض مواطني مصر (الشرفاء) يهرولون إلى القضاء المستعجل مطالبين بتعديل الدستور ليسمح بإعادة انتخاب الرئيس لفتراتٍ غير محددة لاستكمال مسيرة إنجازاته(!) .. ولأن المادة الحالية كما قالوا (بدعة أرادت اللجنة التأسيسية للدستور وضعها كمحاكاة للبلاد الغربية) .. وطالما وصلنا إلى البدعة فالباقي مفهوم .. فكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار .. ولعل هذا هو مفهوم تجديد الخطاب الديني.
لقد حددت المحكمة موعداً بالفعل لنظر هذه الدعوى .. فلا تشغلوا بالكم بالأسئلة التى أثارها فقهاء القانون بخصوص اختصاص هذه المحكمة (التي سبق أن صدر عنها ومن ذات الدائرة حكمٌ بعدم الاعتداد بحكم محكمة القضاء الإداري الخاص بمصريه جزيرتي تيران وصنافير والصادر برئاسة المستشار الجليل يحيى الدكرورى).
لم تبدأ الحنجلة بهؤلاء المواطنين (الشرفاء) .. ولا بتصريحات الدجالين (الشرفاء) التى تعزف نفس اللحن ولكن بتوزيعاتٍ مختلفة .. ولا بحملات التوقيعات الموجهة (الشريفة) فى المصالح الحكومية .. وفى بلدٍ كمصر يصعب تصور أن تتم هذه الحنجلة بتلقائيةٍ ما لم يستشعر أصحابها رضاً رئاسياً .. بدأ منذ ألمح سيادته إلى عدم رضاه عن الدستور الذى صِيغ بنوايا حسنة .. مضيفاً إلى ذلك خلاصة حكمته (إن الدول لا تُبنى بالنوايا الحسنة) .. وحتى لو لم تخرج هذه الحنجلة من عباءته، فقد كان عليه أن يبادر (هو لا غيره) بالرفض الحاسم لهذه التصرفات المهينة بحق الشعب .. ليس فقط لأن هذا واجبه ومسؤوليته .. ولكن لينأى بنفسه عن المصير المحتوم الذى انزلق إليه كل من رَكَلَ السُلَّمَ بعد أن صعد به إلى سُدَّة الحكم كي لا يصعد إليها غيره .. فالعاقل يعلم أن سُلَّم الديمقراطية ليس مجرد وسيلةٍ للصعود وإنما هو أيضاً وسيلةٌ للهبوط والنجاة والخروج الآمن عند الفشل أو تَغَيُّر مزاج الناخبين أو انقضاء المدة التى يحددها الدستور .. لذلك تمتلئ البلدان الديمقراطية بالرؤساء السابقين الذين تركوا الحكم بنفس الوسيلة التى صعدوا بها .. بينما لن تجد في الدول الاستبدادية حاكماً سابقاً .. لن تجد إلا حاكماً سَرمَدياً أو محبوساً أو مخلوعاً أو مسحولا.
عموما.. تُحَّدثُنا القاعدة التاريخية التى لم تخطئ أبداً .. أنه ما من أحدٍ بدأ لعبة الترقيعات الدستورية إلا كان كمن يكتب نهايته بيده .. لم يُستَثْنَ من ذلك أحدٌ في تاريخنا الحديث .. هي سيمفونية النهاية ومارش الوداع .. إذا استعجل المايسترو.