"ثغور المرابطة".. أحوال الأمة من زاوية نظر فيلسوف (1من2)

ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية
المؤلف: طه عبد الرحمان
مكتبة نوميديا
منشورات مركز مغارب للدراسات في الإجتماع الإنساني
الطبعة الأولى 2018 سلا ـ المغرب
254  صفحة

ليس من عادة الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمان أن يكتب في السياسة، ولا أن يشتبك مع أحداثها وتحولاتها، فالرجل اعتاد أن يبحر في حقول المعرفة، مؤسسا لمشروع معرفي نقدي يتأسس على نظرية الأخلاق وبحث سؤالها. فبعد مسار من النقد المعرفي للعقل العربي ونظمه المعرفية، واشتباك نقدي حاد مع مشاريع الدكتور محمد عابد الجابري، انعطف طه عبد الرحمان لمجاله الحيوي، حقل الأخلاق والقيم، ليؤسس فيه ومنه نظريته الائتمانية، فبسط مفرداتها، ومارس بها ومن خلالها نقده للحداثة، محاولا النفاذ لروحها، والتأسيس لحداثة إسلامية، مستفيدا من سعتها في نقد ضيق العلمانية وبؤس الدهرانية، وساعيا للتأصيل من قاعدتها لفقه ائتماني يسعى من خلاله لتقديم إجابات عن بعض الأسئلة الإشكالية الراهنة التي تخص الحياء (الحجاب) أو تخص قضية (العنف) وغيرها.

ليس في كل هذا المسار اشتغال بأسئلة السياسية في أحداثها وتحولاتها، ولم يعرف عن الدكتور طه عبد الرحمان خوض ولا تحليل لتوجهات السياسة الدولية، ولا حتى موقع الأمة ضمن أجندتها.

في كتابه الحديث "ثغور المرابطة" يحاول طه عبد الرحمان أن يكسر النسق الإشتغالي الذي حكم مساره، مقتحما حقل السياسة، وبشكل أخص، موضوع الأمة في سياق السياسات الدولية والصراعات التي تشق وحدتها، والمحاور التي تنتظمها، لكن، ليس بمنظور المحلل  السياسي الذي يشتغل برصد المواقف والمؤشرات ومحاولة ضم بعضها لبعض لتحليل اتجاهاتها واستشراف سيناريوهاتها، ولا بأدوات المؤرخ الذي يقرأ الأحداث الكبرى للأمة في سياقها التاريخي، ويستحضر أبعادها الحضارية، ولكنه اختار أن يستمر على نفس منهجه المعرفي السابق، المتمترس خلف النظرية الإئتمانية، محاولا قراءة السياسة وتموجاتها بخلفية المفكر والفيلسوف الذي يصوغ الأحداث بمعادلات وصيغ فكرية، تعيد النظر في المقولات الشائعة التي ترسخت بكثرة التداول، ويؤسس للمفاهيم، وينحت ـ كعادته ـ المصطلحات الخاصة، التي يوسع بها معجمه المعرفي، ويحاول من خلالها تجاوز بعض الإيرادات التي تقع في العادة على الإحالات المعرفية لبعض المصطلحات.

لأول مرة، ينعطف الدكتور طه عبد الرحمان للخوض في أسئلة السياسة، وبشكل خاص سؤال الصراع العربي الإسرائيلي، ومركزية القدس فيه، وسؤال صراع المحاور الإقليمية في الأمة، إيران والسعودية، فضلا عن سؤال وظيفة المثقف ودوره، والمخارج التي يقترحها الدكتور طه عبد الرحمان للأزمات التي أفضت إليها المقاربة غير الائتمانية لهذه الأسئلة، معلنا في مقدمته، شرطه المعرفي في التعاطي مع هذه القضايا، ومبررات هذه الإنعطافة في مساره المعرفي، والفروق التي تميز مقاربته عن مقاربات المحلل السياسي أو الإعلامي أو المؤرخ. 

 

القضية الفلسطينية بالنسبة لطه عبد الرحمان هي قضية صراع إسلامي ـ إسرائيلي، وليست صراعا عربيا إسرائيليا،

وقد تناول الكتاب ثلاث قضايا رئيسة قدر الفيلسوف أنها تمثل التحديات الفاصلة التي تعيشها ألأمة: قضية تفريط العرب في القدس، وتصارع الحكام على النفوذ، واقتتال العرب فيما بينهم. وقد حاول أن يعالج هذه القضايا في خمسة فصول رئيسة، يبتدئها بتفكيك المشكلة في أصولها الفكرية، ثم يعرض مداخل المقاربة الائتمانية للخروج من الأزمة، مستعينا برسوم تفصيلية تبسيطية توضح نسقه في صياغة المشكلة وتفكيكها ومداخل مقاربتها.

الصراع الإسلامي ـ الإسرائيلي أو تفكيك الأذى الإسرائيلي:

يصر طه عبد الرحمان على وضع قضية القدس في سياقها الحضاري محاولا نزع العديد من الالتباسات المفاهيمية التي رافقتها، فالقضية بالنسبة إليه هي قضية صراع إسلامي ـ إسرائيلي، وليست صراعا عربيا إسرائيليا، لأن الاحتلال مس الأرض، والأرض ليست كبقية الأراضي، وإنما هي ملتقى الأديان، وعلاقة الصراع بالأرض تابعة للعلاقة بالدين، فينبغي أن يتقدم الدين على اعتبار الأرض.

ويتلخص أصل الصراع في نظر طه عبد الرحمان فيما أسماه بالأذى الإسرائيلي، الذي يجمع بين إيذاء الإله باحتلال الأرض، والاعتداء على الملكية الإلهية، وبين إيذاء الإنسان باحتلال فطرته.

ويرى طه عبد الرحمان أن الاحتلال الإسرائيلي لفطرة الإنسان تأخذ شكلين اثنين، قلب القيم بإفساد الذاكرة وإفساد الثقة بالذات وإفساد التوجه، ثم سلب الفطرة بتضييعها وتضييع الروح والقداسة والحياء.

وينتقد طه عبد الرحمان بشدة وصف التطبيع على السياسات الإسرائيلية التي تسعى لربط العلاقات العربية مع الدول العربية، ويرى أنه لا يناسب الفعل الإسرائيلي ووظيفته في قلب القيم وسلب الفطرة، لأن فعل التطبيع مرتبط بالمشروعية فيما الاحتلال الإسرائيلي هو إحلال غير مشروع لكيان غاصب داخل الأمة، كما أن التطبيع يقوم على افتراض مسبق وهو أن الارتباط بالكيان الإسرائيلي كان طبيعيا من قبل، لكنه لم يبق كذلك، فيتعين رده إلى سابق عهده، والحال أن هذا الإفتراض المسبق باطل، وإذا بطل هذا الإفتراض صار التطبيع في حكم ما لا معنى له، ثم إن التطبيع حسب طه عبد الرحمان، لا يصح إطلاقه على الإرتباط بالكيان الإسرائيلي في معنى يضاد المراد منه.

 

يتلخص أصل الصراع في نظر طه عبد الرحمان فيما أسماه بالأذى الإسرائيلي، الذي يجمع بين إيذاء الإله باحتلال الأرض، والاعتداء على الملكية الإلهية، وبين إيذاء الإنسان باحتلال فطرته.

وبعد الجواب عن سؤالي إيذاء الإله وإيذاء الإنسان، يعرض طه عبد الرحمان لسؤال ثالث يتعلق بمداخل دفع الإيذاءين، ويقترح لذلك ما أسماه بالمرابطة، والتي تعني عنده مقاومة تقوم بوظيفتين، تطهير الأرض من الدنس، وتطهير الفطرة من الزيف، فالمرابطة في تحديد طه عبد الرحمان تعني المقاومة التي تلازم ثغور الأرض المقدسة للتصدي لتدنيسها وتعيد إليها قداستها وتلازم ثغور الفطرة المؤصلة للتصدي لتزييفها وتعيد إليها اصالتها، ويخلص من تعريفه إلى أن فضاء المقاومة والمرابطة ليس فضاء ماديا، وإنما هو فضاء معنوي.

ويرى طه عبد الرحمان أن أول مستوى من مستويات المرابطة المقدسية للتصدي لمنازعة الإله، هو تجريد الإسرائيلي من المالكية، وحيث إن الدولة كمؤسسة هي العلامة الكبرى لهذه المالكية الإسرائيلية، فإن المستوى الأول من المقاومة تظهر في عدم الإقرار بالكيان الإسرائيلي، ثم تليه مستويات أخرى دون ذلك، من قبيل رفض كل السياسات الإسرائيلية التي تقر بهذه المالكية، وفي مقدمتها ما يتعلق بالتنسيق الأمني مع الكيان الإسرائيلي. 

وبناء على هذا التحديد، يخطئ طه عبد الرحمان خيارات السلطة الفلسطينية في التعاطي مع الكيان الإسرائيلي، وذلك من وجوه عدة، أولها وقوع السلطة الفلسطينية فيما وقع فيه الكيان الصهيوني من طلب المالكية، معتبرا أن طلب المالكية مناف للتحلي بالائتمان الذي يوجبه الوقت، إذ فريضة الوقت محو آثار الإحلال، وليس وقت التحكم في الرقاب، ومنها أيضا أن السلطة الفلسطينية تسعى لإقامة الدولة الفلسطينية على جزء محدود من الأرض المقدسة، مما يجعلها تخل بأمانة حفظ القداسة، والثالث أن الكيان الصهيوني استطاع أن يصرف السلطة الفلسطينية عن طلب مالكية الأرض إلى الاستغراق في مالكية الكلام، والرابع أن التزامات السلطة مع الكيان الإسرائيلي جلبت للفلسطينيين من فاحش الأذى ما لم يجلبه  لهم عدمها، إذ أن وفاءها بها لم يكن يقابله من جانب الكيان الإسرائيلي مثله، ثم هي أفضت فيما بعد إلى تداخل المصالح والمآرب مع هذا الكيان.

أما في المستوى الثاني من التصدي لمنازعة الإله، فيتمثل في ترسيخ ثقافة الائتمان، إذ لا يكفي في المرابط نزع المالكية عن الكيان الإسرائيلي، بل لا بد من تعديل الثقافة، من التمحور حول الأرض والملكية المقابلة، إلى إعادة الاعتبار لأولوية الأمانة على الملك.

طه عبد الرحمان العديد من مستويات التصدي لإيذاء الإنسان ضمن مقاربة ائتمانية، تراهن على الروح والفعل المعنوي، أكثر من الرهان على القضايا المادية أو ما يسميه الملك، ويختصر الخاصية الإشهادية لدفع تزييف الفطرة في مقاومة السلوك التطبيعي للأفراد، ومقاومة السلوك التطبيعي للأنظمة، وذلك بإعادة تأسيس القيم على الصفات الإلهية، وإعادة تأسيس الإسلام على الصيغة المقدسية، وإعادة تأسيس الروح على القرب الإلهي.

ويرى الدكتور طه عبد الرحمان أن المرابطة المقدسية لا تعني ضرورة شكلا من أشكال المرابطة محصورة في أرض تسمى القدس أو فلسطين، وإنما هي تمتد في كل البقاع، التي يربط أهلها بالقدس وفلسطين، وتخص فعل مواجهة الإيذاء الإسرائيلي للإله والإنسان ومقاومة أشكال التطبيع معه سواء كان ذلك من جهة الأفراد أو من جهة الأنظمة.