مرت تونس باختبار صعب، وذلك بمناسبة
الزيارة الأخيرة التي قام بها ولي العهد محمد بن سلمان ضمن جولته الأخيرة. إذ ما أن
راج خبر نيته في القدوم حتى طرحت أسئلة عديدة على الجميع، مسؤولين في الدولة
وأحزابا ومجتمعا مدنيا ومواطنين: لماذا هذه الزيارة؟ ولماذا الآن؟ هل يتم استقباله
أم يجب التصدي لذلك؟ هل يسمح للمعارضة ونشطاء الجمعيات والصحافة بالتنديد والاحتجاج؟
كانت جميع هذه الأسئلة مشروعة، خاصة بعد كل
ما قيل وراج حول مقتل الصحفي جمال خاشقجي. فالرأي العام التونسي لا يزال تحت
الصدمة، وهو يتابع حتى اليوم أخبار الجريمة النكراء التي لم يكن لها أي مبرر ولا
تخضع لأي منطق.
لم تتفق الأطراف التونسية على موقف أو خطة
مشتركة، وإنما تصرف كل منها وفق قناعاته، وما ينسجم مع موقعه وضمن حدود مسؤولياته.
لقد انتهت المرحلة التي كان فيها رئيس الدولة يمثل الجميع ويلزمهم بمواقفه
وقراراته. فالسبسي شخصيا لم يعد بإمكانه أن ينأى بنفسه عن النقد اللاذع لمخالفيه،
ويتعرض أحيانا لحملات قاسية من أجل إرباكه والتنديد بما يتخذه من سياسات. ولهذا،
لم يعد بإمكان أي دولة في العالم أن تتدخل في الشأن التونسي، وتمارس وتحتج على
مقال كتب ضدها أو بيان صدر عن معارضين لها من داخل البلد، وهي ممارسة كان بعض
السفراء العرب يلجأون إليها قبل الثورة؛ من أجل لفت نظر الحكومة إلى ما يعتقدون
بكونه مسا بهيبة المسؤولين في دولهم، ويؤكدون على أن ذلك من شأنه الإضرار
بالعلاقات الثنائية. وكانت الجهات الرسمية التونسية تأخذ تلك الاحتجاجات بعين
الاعتبار، وأحيانا تعتذر نيابة عمن ارتكب ذلك "الخطأ". أما اليوم، لو فكر
أي مسؤول تونسي في أن يفعل ذلك؛ فسيعرض نفسه لمحرقة سياسية ولهجوم إعلامي كاسح.
ولعل ما تعرض له رئيس الجمهورية السابق منصف المرزوقي من هجوم لا يزال متواصلا حتى
اليوم؛ دليل على ذلك، وذلك بسبب الاعتذار الذي قدمه باسم تونس إلى دولة قطر على أثر
الانتقادات التي وجهت لها من قبل أطراف مناهضة لها.
تعيش تونس حالة ديمقراطية حقيقية رغم
التخبط السياسي الحاصل، ولعل هذا الأمر هو الذي جعل ولي العهد السعودي يقدم على
زيارته رغم علمه
بالتحركات المناهضة له؛ لأنه أصبح مدركا بأن تونس اليوم تختلف
كثيرا عن تونس الأمس، من حيث حجم التغييرات السياسية التي حصلت فيها.
إلى جانب ذلك، يبدو أن ابن سلمان يريد أن
يواصل مشوارا كان وعد به الرئيس الباجي قايد السبسي، خلال الزيارة الرسمية التي قام
بها هذا الأخير إلى المملكة. لقد قدمت السعودية يومها للرئيس التونسي وعودا عديدة،
لكنها بقيت معلقة ولم يتحقق منها إلا القليل، ولهذا عاد الحديث بمناسبة هذه
الزيارة عن بعض من تلك الوعود. ولم يكن ذلك من باب الصدفة؛ لأن السبسي رحب بضيفه،
ولم يخضع للضغوط التي مارستها أطراف عديدة عليه، بما في ذلك حركة النهضة التي لم
تكن مرتاحة لهذه الزيارة، ورغبت في أن يتم البحث عن مسوغات لتجنب هذا اللقاء،
مثلما فعل ملك المغرب محمد السادس. غير أن الرئيس التونسي تمسك بموقفه، مستحضرا
حرصه على حماية مصالح الدولة، حيث أكدت مصادر قريبة منه أن الرغبة في الزيارة جاءت
من الرياض، وأنه لا يستطيع أن يتجاهلها، خاصة وأن تونس بصدد الإعداد لاجتماع القمة
العربية القادمة، وأن المملكة هي التي ستسلم الرئاسة إلى تونس.
والسبسي بحكم ماضيه السياسي، يعتقد بأن
منطق الدولة يقتضي منه أن يحافظ على مصالح بلاده، وأن يحمي علاقتها ببلد بحجم
المملكة، مهما كانت تحفظاته على ما يجري داخلها. هذه هي إحدى مرتكزات
الدبلوماسية
التونسية منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وبقي الباجي يدافع عنها بعد
الثورة. وكانت إحدى عناصر خلافه مع من سبقه في رئاسة الجمهورية، حين اعترض على قطع
العلاقات الدبلوماسية مع سوريا ووعد بإعادتها إلى ما كانت عليه عندما يتم انتخابه.
ما يمكن أن يسجل في هذا السياق هو أن قيادة
المملكة العربية السعودية قد توصلت برسالتين ذات مضامين مختلفة ومتناقضة؛ رسالة من
مواطنين وأحزاب وجمعيات نزلوا إلى قلب العاصمة معلنين رفضهم للزيارة مطلقا، ورفعوا
شعارات معادية لولي العهد، ومشيرين بالخصوص للحرب المتواصلة في اليمن. وفي المقابل
رسالة الجهات الرسمية تعاملت معه بما يقتضيه البروتوكول، وتمليه مصالح الدولة.
والكرة الآن في ملعب الرياض التي عليها أن تدرك بأن مشاعر التونسيين تجاه المملكة
قد تغيرت كثيرا مقارنة بما كانت عليه من قبل.