الحديث عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حديث لا يمل، ولا ينتهي مهما طال، وقد شهد له كثيرون بعظمته، وعظمة خلقه ورسالته، وقد درس شخصيته كثيرون غير مسلمين، غربيون وشرقيون، عرب وعجم، سواء من حيث شخصيته كقائد، أو شخصيته كرسول صاحب رسالة، نقل بها البشرية من الظلمات إلى النور، ومن أهم المفكرين المسيحيين المصريين الذين تناولوا شخصيته بالدراسة المنصفة، الدكتور نظمي لوقا.
كتب الدكتور نظمي لوقا كتابين مهمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأول بعنوان: محمد في حياته الخاصة، وقد تناول حياته زوجا، ورد على الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام، والآخر بعنوان: محمد.. الرسول والرسالة، تناول فيه رسالته وعظمتها، وعظمة شخصيته صلى الله عليه وسلم، والكتابان من أهم ما كتب في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في العصر الحديث، من حيث القوة العلمية، والإنصاف.
أليس قد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في قوت عياله؟ ومن هو؟ هو السيد غير منازع، وقد أوتي الفتح المبين. وعنَت له رؤوس المعاندين، ولكنه كان مشغولا بأن يسود نفسه لا بأن يسود الناس
وقد كتب في مقدمة الكتاب قصته، وكيف تعرف على الإسلام، والسبب في ذلك: أن والده كان موظفا حكوميا سافر إلى السويس، بصحبة عائلته المسيحية المصرية، فعهد بابنه إلى أحد محفظي القرآن المكفوفين، ليقوي لغة ابنه العربية، وكان الشيخ رجلا سمحا، ويصحب الطفل نظمي للمسجد ليعطيه الدروس، يوميا بعد صلاة العصر، وينظر البعض شزرا للطفل المسيحي والشيخ، فيرد عليهم الشيخ ليعلمهم سماحة الإسلام، ويناقشهم بالأدلة.
ظل الطفل المسيحي نظمي لوقا يتردد على الشيخ فترة طويلة، حتى جدت عندهم ظروف مادية تمنعه من الاستمرار في درس الشيخ، فأخبره السيد لوقا بأن الدرس سينقطع، لعدم قدرته المادية، وقد ذهبت أم نظمي لخالها وهو أحد القساوسة تطالبه بميراثها من أمها، فرفض، وأكل ميراثها، وفي الموعد الدائم للدرس، فوجئ الطفل نظمي بالشيخ الكفيف يطرق باب بيتهم، فلما فتح له الباب، قال له: يا شيخ لقد اعتذر لك أبي عن الدرس، فقال له: أخبر والدك فقط أني جئت، وجاءه والده، وإذ بالشيخ يقطع عليه الحديث قائلا: يا أستاذ لوقا لقد نلت من خيركم عندما كان لديكم المال، والآن جاء دوري لأبذل مما لدي من خير، وهو العلم، من الآن سآتيكم إلى البيت لأدرس نظمي اللغة العربية، كما كنت معه من قبل، دون مقابل مادي. كان هذا الموقف ـ والمواقف السابقة من الشيخ ـ ماثلة في ذهن وعقل الطفل المسيحي نظمي، لتلازمه طوال حياته.
شهادة منصفة
كتب نظمي لوقا أكثر من كتاب عن الإسلام، ولكن أشهر كتابين كما ذكرت هما: محمد في حياته الخاصة، ومحمد.. الرسول والرسالة، وقد قرر الأستاذ محمد فريد أبو حديد المسؤول عن المناهج التعليمية في مصر سنة 1958م كتاب: (محمد.. الرسول والرسالة) على طلبة المدارس، وكتب فتحي رضوان وكمال الدين حسين مقدمتين للكتاب، واعترض بعد ذلك مجموعة من المسيحيين المصريين وشكوا للسلطات من ذلك، فتم إلغاء تدريس الكتاب.
امتلأ الكتاب بالإنصاف والإعجاب بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، والحديث عن كثير من فقراته يصعب، لكني أختار بعض فقراته لنرى إنصاف مفكر مسيحي مصري لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، يتحدث نظمي لوقا معلقا على قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس ألا من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه! ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه! ولا يخشى الشحناء من قلبي، فإنها ليست من شأني؟ ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس!
يقول: (ما أعظم وأروع! ما من مرة تلوت تلك الكلمات أو تذكرتها إلا سَرَت في جسمي قشعريرة، كأني أنظر من وهدة في الأرض إلى قمة شاهقة تنخلع الرقاب دون ذراها..
أبعد كل ما قدمت يا أبا القاسم لقومك من الهداية والبر والرحمة والفضل، إذ أخرجتهم من الظلمات إلى النور، تراك بحاجة إلى هذه المقاصة كي تلقى ربك طيب النفس، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. ولكن العدل عندك مبدأ. العدل عندك خلق، وليس وسيلة).
مات ودرعه مرهونة عند يهودي
(أليس قد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في قوت عياله؟ ومن هو؟ هو السيد غير منازع، وقد أوتي الفتح المبين. وعنَت له رؤوس المعاندين، ولكنه كان مشغولا بأن يسود نفسه لا بأن يسود الناس).
وقال في موضع آخر: (ما عرفت شيئا يغير الرجال ويمتحن معادنهم مثل فتنة السلطان. وما رأيت رجلا ـ إلا الأقل الأقل ـ لم تغير بوادر النفوذ، ولم تدر برأسه خمر السلطة، فإذا خيلاء وصيد تتغثى له النفس، حتى ليصدقني فيهم قول القائل: إنهم ينحطون باطنا كلما علوا ظاهرا، وإن فيهم الفتى الغرّ الذي لا يحسن من أمر نفسه شيئا، فضلا عن أمور الناس، وينتفش بما ألقي إليه من فتات الأمر والنهي كأنه الديك الرومي، أو يتثاقل في خطوه وقد برز صدره ورأسه، كأنه شتُربَّة يتأهب للنطاح!
وما سلطان هؤلاء الأغرار الهلافيت في جانب ما أوتيت أنت من سلطان يا أبا القاسم، يا لسان السماء، ويا حاكم الدنيا، ويا من لا يعلو سلطانك على أتباعك من بني آدم سلطان، فليس فوقك إلا المهيمن الأحد؟
هباءٌ سلطان أولئك جميعا مهما علوا واستطالوا إلى جانب سلطانك، أو أهون من الهباء.
وما فتنك سلطان، وقد انتهيت من العنت والبأس والحصار والمطاردة إلى النصر المؤزر والفتح المبين، والطاعة العمياء والسؤدد الذي لم ينبغِ لأحد من قبل ولا من بعد!
يسمع الابن البكر أنك وجدت على أبيه ذي الأيد والبأس، فيأتيك يسألك الرخصة أن يضرب عنقه، فهو أولى بذلك من سائر الناس، لتكون لك به قرة عين، ثم تأبى أنت وتعفو، وتصفح عن ذلك الغادر المتآمر كرامة لولده الطائع.
إلى هذا المدى بلغ سلطانك، وناهيك به من سلطان، فما دار لك رأس، ولا ركبتك خيلاء، ولا أصابك تيه وزهو! بل كنت تمشي في الأرض هونا، وتزداد مع نمو سلطانك تواضعا لله وخفض جناح للمؤمنين! وكنت تقول وتعيد القول لا تمل من تكريره: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"!
ويأتيك الرجل من الأعراب ليبايعك يوم الفتح الرهيب، وأنت فوق قمة السلطان، فتأخذه الرهبة بين يديك ويرتعد، فتأخذك من ذلك دهشة رائعة في بساطتها وتقول له: "هوِّن عليك! لست بملك! إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة".
إني والله أخجل من قوم أراهم بعد ذلك يأخذهم الزهو بالمنصب، ويركبهم الافتتان بالسلطان، وأنا أتمثلك في هذا الموقف الذي لا تدانيه في علوه وقفات العواهل الفاتحين. وإن مجد هذه الكلمة وحدها ليرجح في نظري فتوح الغزاة كافة، وأُبَّهة القياصر أجمعين.
أنت بأجمعك في هذه الكلمة، وما أضخمها أيها الصادق الأمين!
ثم سلام على الصادقين).
هذا قليل من كثير خطه يراع المفكر المسيحي المصري نظمي لوقا معبرا عن مشاعره وأفكاره عن نبي الهدى والرحمة والعظمة محمد صلى الله عليه وسلم.
[email protected]