الحوادث الغَريبة في عراق ما بعد 2003 متكرّرة ومتنوعة، وآخرها ما كشفه محافظ البنك المركزيّ علي العلاق، في أروقة مجلس النواب الاثنين الماضي، حيث أقرّ بأنّ "مياه الأمطار قد دخلت إلى خزائن بنك الرافدين وأغرقتها، وتسببت بتلف سبعة مليارات دينار (
حوالي ستة ملايين دولار)"!
النقود الورقية يعتمد في صناعتها على مادة اللينين (أو القُطن) التي يتم تفكيكها إلى ألياف لا تتشرّب بالماء، وهو ما يُفسر عدم تأثر الأوراق النقديّة به!
وبحسب الموقع الرسميّ للبنك، فإنه وبعد الاحتلال، "أصدرت سلطة الائتلاف المؤقّتة عُملة عراقيّة ورقية جديدة، وتمّت طباعتها وفقاً للمعايير الدوليّة"؛ وعليه كيف يمكن أن تكون العملة العراقيّة طُبعت وفقاً للمعايير النقديّة الدوليّة، وتضررت بمياه الأمطار؟ ألا يُعدّ ذلك تناقضاً مع مقاييس العلوم والصناعة والمنطق؟
حادثة غرق الأموال لم تقع في تاريخ
المصارف العراقيّة؛ لأنّ تلك الأموال ودائع يفترض حفظها في خزائن مُحْكَمة الإغلاق، ومقاومة للحرق والكسر والغرق، ولا يمكن تصوّر أنّ الأموال توضع بشكل عشوائيّ في المخازن المصرفيّة؛ لأنّ هذا خلاف المنطق والقانون والعمل المصرفيّ. لذلك، لا يمكن قبول فرضيّة أنّ الأموال قد تلفت بسبب مياه الأمطار، فأين هي احتياطات المصرف في الظروف غير الطبيعيّة؟ وكيف يمكن تصوّر وصول المياه إلى خزائن المصرف؟ وهل بغداد غرقت في العام 2013 - ونحن لا ندري - حتى يغرق معها البنك المركزيّ؟
ثم أين هي الأموال التالفة؟ ألا يفترض عَرضها على مجلس النواب، أو حفظها، أو حتى إتلافها بشكل رسميّ بعد التحقيق الحكوميّ بالحادثة؟
العلاق كان متناقضاً أثناء شهادته أمام مجلس النواب، حيث ذكر بدايةً أنّ نسبة التلف بلغت 100 في المئة، وبعدها قال إنّ" الأوراق النقديّة حافظت على أرقامها التسلسليّة، مما دفع البنك لتعويض المبالغ التالفة"! فكيف تعرّفوا على أرقامها وهي تالفة تماماً؟
الغريب أنّ مدير عام الإدارة المالية في البنك، صالح ماهود، بيَّن أنّ "حادثة تلف العملة وغرقها كانت قضاءً وقدراً"! فإذا كان الأمر يدخل في دائرة القضاء والقدر، فلنترك المصارف بلا أيّ حماية، وإن سُرِقت سنقول، حينها: هذا قضاء وقدر!
هذا التبرير الرسميّ لا يتفق مع أصول كافة الشرائع السماويّة، ولا مع أساسيات المنطق السليم، فكيف يمكن قبول هذه التفسيرات الرسميّة الهزيلة بأنّ غرق تلك الأموال كان "قضاءً وقدراً"؟
وبعد أن راجت القضية في مواقع التواصل الاجتماعيّ، قالت مديرة المصرف خولة الأسدي إنّ "هذه الأوراق النقديّة كانت تالفة ومعدّة للاستبدال"، وإنّ ما حصل عام 2013 من تشقّقات في شارع الرشيد نتيجة الأمطار الغزيرة أدى إلى تشقّق بعض جدران الخزائن، كما أنّ ارتفاع منسوب نهر دجلة فوق مستوى الخزائن، وعجز شبكة تصريف مياه الأمطار، أدى إلى دخول المياه من أبواب الخزائن والجدران وشبكات تصريف المياه، ما مثّل "قوة قاهرة على المصرف"!
هذا التصريح يتناقض مع كلام المُحافظ أمام مجلس النواب، الذي أكد أنّ الأمطار هي التي أتلفت الأوراق النقديّة، ولم يذكر بأنّها كانت "تالفة ومعدّة للاستبدال". ثمّ أين هي تدابير المصرف الوقائيّة؟ ألا يفترض بهم نقل تلك الودائع إلى أماكن آمنة؟
الموضوع الغريب ولا يتعلق بالستة ملايين دولار؛ لأنّها لا تمثل شيئاً يُذكر أمام الألف مليار دولار المنهوبة من موازنات
العراق منذ العام 2003، وإنّما القضية تتعلق بالاستخفاف بممثّلي الشعب وعقول الجماهير العراقيّة؛ من قبل محافظ المصرف وبقية المسؤولين، وروايتهم السقيمة التي لا يمكن تصديقها حتى من طرف "رفاقهم" في الصفقات السرّيّة!
مجلس النواب وحكومة بغداد ولجان الرقابة الماليّة، والنزاهة؛ أمام اختبار حقيقيّ كبير، وعليهم أن يَحسموا موقفهم من القضية، دون النظر إلى خلفيّة المحافظ الحزبيّة؛ لأنّها فضيحة مدوّية لا يمكن التغافل عنها، ولا القبول بتمريرها دون عِقاب مُناسب!
هذه الحادثة الغريبة يفترض أن تكون مناسبة لحملة وطنيّة كاسحة للفساد يقودها رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، الذي أكدّ في منتصف آب/ أغسطس 2015 (حينما كان وزيراً للنفط) أنّ
الفساد سحقَ أكثر من 400 مليار دولار!
فهل سنجد موقفاً نيابيّاً وحكوميّاً قويّاً، أم أنّ الملف مصيره المساومات والتوافقات، كحال غالبيّة السرقات وصفقات الفساد الماليّ في الدولة العراقيّة؟