بعد انتهاء مهلة 180 يوما في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر، أزاحت واشنطن الستار عن المرحلة الثانية من
العقوبات الأمريكية على
إيران، والتي تمس مفاصل الاقتصاد الإيراني.
عقوبات بلا أثر
بعد مضي قرابة أسبوع على بدء هذه المرحلة، والتي تريد واشنطن أن تجعلها "الأصعب" و"الأكثر صرامة وقسوة في التاريخ"، كما توعد بذلك وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 21 من أيار/مايو الماضي، تبدو الأسواق الإيرانية هادئة نسبيا دون تأثر واضح بالإعلان الأمريكي، وذلك على عكس التوقعات بأن تلك الأسواق ولاسيما سوق العملات الصعبة سوف تشهد اضطرابا كبيرا في الأسعار بعد سريان هذه العقوبات.
بيدا أن العقوبات الأمريكية تركت آثارها النفسية والإقتصادية معا قبل أن تدخل حيز التنفيذ، لذلك لم تسجل قيمة الريال تراجعا جديدا منذ الخامس من تشرين ثاني/نوفمبر، لتتأثر بذلك بقية الأسواق تباعا. هذا ما حصل أيضا في الأيام التي أعقبت دخول المرحلة الأولى من العقوبات حيز التنفيذ في آب/أغسطس الماضي، لكن بعد أسبوعين انتهى هذا الوضع، وانخفضت قيمة الريال إلى مستوى قياسي.
هذه الأيام، وبعد سريان المرحلة الثانية من العقوبات التي تعتبر أكثر شمولا والأهم من سابقتها، تسعى الحكومة الإيرانية جاهدة، وبكل ما أوتيت من قوة إلى ضبط الأسواق لتظهر للعالم وللولايات المتحدة الأمريكية فشل العقوبات ونجاحها في التغلب عليها. المهم أن الأسابيع والأشهر المقبلة تحمل في جعبتها الكثير، إن كانت تؤكد هذا الفشل أم لا؟
تغيير السلوك الإيراني
يعرف القاصي والداني أن واشنطن تستهدف من خلال هذه العقوبات "القاسية" الضغط على الشارع الإيراني لتأليبه على النظام، وبالأساس ما شجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الانسحاب من الإتفاق النووي والمضي قدما في تكثيف الضغوط على طهران، هو احتجاجات كانون ثاني/يناير 2018، والتي بدأت "مسيسة" كما يقول الرئيس الإيراني وبعض الإصلاحيين.
الغاية من تأليب الرأي العام الإيراني هي "تغيير سلوك إيران في المنطقة" كما تقول الإدارة الأمريكية رسميا، أو "تغيير نظام الحكم في إيران" كما تعتبره الحكومة الإيرانية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة بعد الرابع من تشرين ثاني/نوفمبر، هو أنه هل فعلا العقوبات تؤدي إلى تحقيق هذه الغاية؟ سواء كان تغيير السلوك أو تغيير النظام.
لا شك أنه بالرغم من التهويل الإيراني الرسمي، إلا أن هذه العقوبات تضع طهران أمام أيام صعبة، لم تمر عليها سابقا، ليس بسبب نوعية العقوبات وطبيعتها، حيث إنها ليست جديدة عليها، وشهدت أسوأ منها قبل 2015 عندما كانت تواجه عقوبات أممية خانقة، وإنما لسببين آخرين، الأول أنها تفرض بينما المشاكل البنوية أدخلت الإقتصاد الإيراني في حالة صعبة، والثاني أنها تأتي في ظل وجود رئيس أمريكي على رأس السلطة الأكثر عداء مقارنة بالرؤساء السابقين.
مع ذلك، لا يفترض أن تؤدي هذه العقوبات إلى تلك الغاية التي تبتغيها واشنطن، لأسباب كثيرة، منها أن العقوبات وحدها لم تنه في السابق أي نظام آخر تعرض لها، سواء كوريا الشمالية، أو العراق أو غيرهما، ثم إن إيران لديها تجربة غنية في التعامل مع العقوبات، ورغم أنها تواجه هذه المرة مصاعب في الالتفاف عليها بسبب اكتشاف آلياتها وطرقها السابقة بعد اعتقال رجال أعمال إيرانيين في الولايات المتحدة، إلا أن خبرتها في هذا المجال ستوجد لها سبلا جديدة، ما يمكّنها من تخفيف تبعاتها إلى حد ما.
كما أن نجاح سياسة العقوبات الأمريكية يرتبط بمقومات وعوامل لا تتوفر في الوقت الحاضر، أولا أن السياسة الترامبية الأحادية حول الإتفاق النووي وسط رفض دولي كبير بدأ من الإتحاد الأوروبي، ومرورا بالصين وروسيا ووصولا إلى قوى أخرى كتركيا، أفقدت الإدارة الأمريكية إجماعا عالميا ضد طهران من جهة، وتفتح أمام الأخيرة منافذ ولو ضيقة من جهة أخرى.
وفي هذا الإطار تأتي المساعي الأوروبية لمساعدة طهران بعد الانسحاب الأمريكي من الإتفاق النووي في أيار/مايو الماضي. صحيح أن تلك المساعي لم تحقق إلى الآن نتائج تتوخاها إيران، وأن تأسيس القناة المالية الأوروبية "سبيشال بيربوس فييكل" (Special Purpose Vehicle)لم تر النور بعد لأسباب موضوعية، إلا أن الأوروبيين اليوم أكثر من أي وقت مضى معنيون بالحفاظ على كينونتهم عبر "الورقة الإيرانية" لشعورهم بالتهديد من جانب حليفهم الأمريكي.
ثانيا، التعامل "الفج" لإدارة ترامب مع كل من الإتحاد الأوروبي، والصين وروسيا، ومعاركها السياسية والتجارية مع هذه الأطراف، بقدر ما يصنع عزلة لهذه الإدارة، يخلق فرصا لإيران.
مواقف أوروبية مستقلة
عليه، تأتي تصريحات أوروبية متكررة خلال الشهور الماضية حول ضرورة اتباع سياسات مستقلة عن الإرادة الأمريكية في سبيل تعزيز استقلال وسيادة أوروبا في السياسة التجارية والاقتصادية والمالية. كان آخر تلك التصريحات، ما تحدث عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام أن أوروبا بحاجة إلى "جيش أوروبي حقيقي" دون الاعتماد على أمريكا.
ثالثا، "السياسة الخارجية الأحادية" للرئيس الأمريكي، منها ما يتعلق بالملف الإيراني ستواجه مصاعب شتى بعد سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب في الانتخابات النصفية الأخيرة، ما يفقده اجماعا داخليا في هذا الخصوص أيضا. مع ذلك لا يستبعد أن يقرر ترامب نقل أزمته الداخلية ـ حال استفحت ـ إلى الخارج عبر تصعيد خطير في سياسته تجاه إيران لفرض أولوية خارجية على أجندة الديمقراطيين الداخلية.
رابعا، السعودية التي أعلن فيها ترامب خلال زيارته الخارجية الأولى للمملكة في 2017 عن تشكيل جبهة في مواجهة إيران، تعاني اليوم ظروفا صعبة بعد جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، أثرت على موقعها "المهم" في هذه الجبهة.
خلاصة القول إن العقوبات الأمريكية ستؤثر سلبا على الإقتصاد الإيراني أكثر من قبل، وتضيق الخناق على معيشة المواطن الإيراني، لكنها لن تؤتي أكلها كما تريدها واشنطن إلا اذا ما تحولت إلى حصار اقتصادي مطبق، تصبو إليه الإدارة الأمريكية في نهاية المطاف، وهذا أيضا ليس واردا أن يتحقق في ظل الظروف الموضوعية آنفة الذكر.