هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أولى الأزمات التي خلقتها جماعة ابن سلمان لمستقبل المملكة هي توهين
الانتماء للإسلام، وقد تحقق هذا التوهين من خلال قرارات لا يمكن تفسيرها بغير هذا
الهدف. فمن ذا الذي يستطيع أن يزعم مشروعية من أي نوع لمسارعة السعودية إلى إقامة
علاقات دبلوماسية مع أفريقيا الوسطى في الوقت الذي تتصاعد فيه حرب الإبادة التي
تشنها جماعات مرتبطة بالسلطة الحاكمة في أفريقيا الوسطى وتعلن عن هذا جهارا نهارا؟
ومن
الغريب أيضا أن السعودية نفسها كانت (فيما مضى من عصر الحرب الباردة) حريصة على
إعلان قطع علاقاتها أو تقليصها مع الدول الشيوعية تحت دعوى أنها شيوعية، وإن كان
المفهوم أن هذا كان في إطار توثيق العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية، وربما
يقول قائل إن مثل هذا القرار قرار أمريكي، وليس هذا موضوع مناقشته، لكننا نعرف أن
السعودية منذ نشأت في 1932 كانت حريصة على الانتماء الإسلامي ولو من حيث الشكل حيث
كان هذا الانتماء أبرز أعمدة بنيان السياسة السعودية، وهنا في ظل قرارات من هذا
القبيل فإن السعودية تخسر كثيرا جدا من مكانتها الدولية قبل أن تخسر من مكانتها
الإسلامية، وهي لا تخسر في ميدانها كدولة فحسب، بل تخسر معها أوتوماتيكيا على صعيد
إضعاف مكانة المؤسسات الإسلامية الدولية المرتبطة بها وفي مقدمتها منظمة المؤتمر
الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي.
ثاني هذه الأزمات هي الإسراع في تأكيد استحقاق الوصف القرآني القائل بأن السعودية تصد عن بيوت الله، وليس هذا من باب التجني فإن التاريخ كله لم يشهد فرض هذه الرسوم والمكوس والضرائب التي فرضها عهد ابن سلمان على حجاج البيت الحرام والمعتمرين للتقليل من أعدادهم، ومن العجيب أن هذا التوجه الذي يزعم الحداثة يلجأ إلى تصوير الأمر على أنه مراعاة للازدحام وكثرة الإقبال على المشاعر المقدسة مع أن العالم كله يتنافس الآن من أجل زيادة الإقبال بكل ما هو ممكن من وسائل الترويج السياحي والقبول السياسي. فهذه فرنسا وقد تخطى عدد زوارها بفضل السياحة والسياحة وحدها حتى تعدى عددهم ثمانين مليونا.
وإذا كان الأمر أمر
مقارنة مستندة إلى المقومات والمعالم والمقاصد المزورة فإن السعودية تستحق أن
يزورها على الأقل مائتان من الملايين، فالمسجد الحرام حلم كل إنسان مسلم وزيارته
وعمرته بطريقة سنوية ليستا ترفا ولا تزيدا في عصر الاتصالات وسهولتها، ولو أن
السعودية تقدم من التسهيلات لزيارة الكعبة المشرفة ما يناظر أو يقترب من تلك التي
تقدمها فرنسا لزيارة برج إيفل لبلغ عدد زوار الكعبة مائتي مليون في العام.
لكن
الردود التي يستسهلها الذين لم يزوروا العالم المتقدم لا تزال تخضع لرؤيتهم الضيقة
وخبراتهم المحدودة التي لم تتجاوز مطلع السبعينيات، ولست أذيع سرا أنني اصطحبت كل
من استطعت من المسلمين إلى ميدان قصر النصر الشهير في باريس وأطلعتهم على الحركة
المتدفقة في ذلك الميدان دون أي عائق فإذا بهم يكشفون من دون استنطاق لهم أن مسألة
الحواجز والتعقيدات في موسم الحج ليست إلا وهما في وهم وتعسفا في تعسف بل وصدا عن
سبيل الله. والله سبحانه وتعالى أسأل أن يحقق أملي في أن يصل عدد الحجاج
والمعتمرين إلى مئتي مليون عن قريب حين تتخلص جماعة الجيل الجديد في السعودية من
هذه الأفكار التي تخطاها العصر في كل مكان.
ثالث هذه الأزمات هي الإخراج المفاجئ
للمؤسسة الدينية التقليدية في السعودية عن قصد من أهل السنة والجماعة، مع أن هذا
الانتماء كان (ومن المفترض أنه لا يزال) هو الصفة التي حرصت عليها المملكة طيلة
عدة عقود، وقد يكون هذا الإخراج والدور الرسمي في إحداثه غريبا أو غير مفهوم لكنه
مع الأسف هو الحقيقة، ذلك أن مؤتمر جروزني الذي انعقد في الاتحاد الروسي (بما يوحي
به من ظلال حقبة الاتحاد السوفييتي) في جمهورية مسلمة هي الشيشان بتنظيم وتنسيق
الإمارات (في الظاهر أو المفهوم) لم يكن يستهدف إبعاد جماعات الإسلام السياسي من
قبيل الإخوان المسلمين وحزب الإصلاح وأمثالهما من مظلة أهل السنة والجماعة، لكنه
كان يستهدف الوهابية نفسها، وكان ذلك المؤتمر ينجز هذا بتمويل من جهات سعودية
استترت كالعادة خلف الإمارات أو جعلت الإمارات قفازا ليدها الباطشة.
وحين
انعقد المؤتمر فجأة وأُعلنت توصياته بسرعة لم يتنبه أحد إلى هذه الحقيقة الشاذة
لكنني بقراءة متعمقة ومتكررة للتوصيات ومن واقع فهم واسع للنظرتين السياسية
والإسلامية لم أجد صعوبة في اكتشاف اليد السعودية المختفية في كيان هذا المؤتمر،
وسرعان ما اكتشفت وجود الحكومة الرسمية بوضوح من خلال المرتبطين بجماعة الجيل
الجديد المعلن لخصامه مع أقوى موروثات الحاضر من الماضي القريب.
والشاهد
في الأمر أن مثل هذا المؤتمر بداية وليس نهاية، وهو في حقيقة الأمر لا يستهدف
إقرار مبدأ وإنما التشكيك في مبدأ، والغاية الحقيقية منه أن تهتز الأرض الصلبة
التي يقف عليها تقسيم السنة والشيعة (الذي أجاد الأمريكان توظيفه طيلة أربعين
عاما) ليُنبت أرضا أخرى لتقسيم جديد يفرق ما بين سنة وسنة.
والذين يعرفون أثر التعليم الديني في خلق المذهبية يدركون ما لا يتصور الآخرون إدراكه من أن التعليم الديني على مذاهب مختلفة هو وحده الكفيل بإسلام غير مذهبي، أما التعليم الديني على مذهب واحد فإنه كفيل بتعصب يقود إلى التكفير وذلك في ضوء المفهوم العميق الذي أرسته توجيهات النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بأن من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما وهو ما يعني ببساطة ووضوح أن من يكفر المسلم كافر.
وما يؤسف له أن تعامل جماعة
ابن سلمان من خلال معاونيهم أو مراجعهم مع أمور العقيدة الإسلامية يمضي بها في
طريقه النقائض المقصودة، وهو أسلوب وظفه علماء الاجتماع الذين أدوا أدوارا
استعمارية في عصور الإمبريالية. وأظن أن مثل هذا الدور لم يعد محل له في عصرنا
الحالي لكن جماعة ابن سليمان بالطبع لا يعرفون عواقب اندفاعاتهم.
عن
صحيفة الشرق القطرية