خلال الأسبوع المنصرم، نقلت صحيفة وول ستريت جورنال أنّ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كان قد تساءل في اتصال هاتفي مع جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي ترامب، عن سبب الضجّة المفتعلة حول اختفاء الصحفي جمال
خاشقجي، مشيراً إلى أنّه لم يكن يتوقع مثل هذا الأمر.
إذا صح هذا الكلام، فمن الممكن القول إنّ ولي العهد السعودي كان محقّاً في إبداء هذا الاستغراب، إذ أنّه ارتكب خلال السنوات الثلاث الماضية العديد من الكوارث على صعيد السياسة الداخلية والخارجية دون أن يحاسبه أحد عليها، أو حتى يحاول إيقافه عند حدّه.
مأزق ترمب
وبخلاف ذلك، فقد تلقى ولي العهد دعماً غير محدود من إدارة الرئيس ترامب في الحملة العسكرية الفاشلة في اليمن، وفي الأزمة المفتعلة مع قطر، وفي رؤيته حول"صفقة القرن"، وفي حملة القمع الداخلية غير المسبوقة التي قام بها والتي شملت أمراء ومسؤولين رفيعي المستوى وكبار رجال الأعمال في المملكة. يبدو الأمر مختلفاً هذه المرّة، فموقف الرئيس ترامب متخبّط لكن الأكيد أنّه لا يتمسّك بالدفاع عن ولي العهد السعودي، لا بل إنّه اتّهمه في آخر تصريحاته بأنّه قد يكون المسؤول المباشر لأنّه هو من يدير الأمور في السعودية.
لا يمتلك الرئيس الأمريكي الكثير من الخيارات الآن، فعلى الرغم من أنّ تجاهل ما جرى من الممكن أن يُمكّن ترامب من إبتزاز السعودية وحكّامها بشكل أكبر، إلا أنّه من الممكن أن يفسّر على أنّه دعم جديد لسياسات ولي العاهد الخطيرة والطائشة والمتهورة، وهو تفسير لا يمكن له أن يتحمّل تكاليفه السياسية في هذه المرحلة. الرئيس الأمريكي في مأزقٍ الآن. أمامه انتخابات نصفيّة في تشرين ثاني/ نوفمبر المقبل، ويحاول الحفاظ على صفقات السلاح الضخمة مع السعودية، وذلك لإقناع شركات تصنيع السلاح والرأي العام بجدوى سياساته في تحقيق المنفعة لهم، لكنّه لا يريد في نفس الوقت أن يربط اسمه بمن يُعتقد على نطاق واسع أنّه أعطى الأوامر لقتل خاشقجي في
تركيا.
أمّا بالنسبة إلى الكونغرس، فإنّ معظم التهديدات التي تصدر عن عدد من أعضائه، إنما تأتي من مسؤولين دعموا السياسات السعودية بشكل مطلق ويشعرون الآن بأنّهم تلقوا ضربة في الظهر تجبرهم على اتخاذ قرار بالرد. بهذا المعنى، فإنّ مقتل خاشقجي قد وضع واشنطن في موقف حرج بين حليفين مهمين لها في الشرق الأوسط، أي أنقرة والرياض، وعقّد من الحسابات تجاه طهران.
صمت إسرائيلي-إيراني
إسرائيل الرسمية ظلّت صامتة إلى حدّ بعيد إزاء جريمة قتل خاشقجي، شأنها في ذلك شأن إيران. البعض يصف
التداعيات الجيوبوليتيكية الناجمة عن الجريمة بالكارثية بالنسبة إلى تل أبيب سيما إذا انتهت العملية بتقويض موقع ولي العهد السعودي بشكل لا يمكن الرجوع عنه، على اعتبار أنّه يعدّ الشريك الأساسي في"صفقة القرن".
في مقال له في صحيفة هآريتس الإسرائيلية، فسّر رونن بيرجمان، خبير الشؤون الأمنية والاستخباراتية، صمت إسرائيل حيال الموضوع بقوله إنّ المقربين من ولي العهد ممّن سيتم إيقافهم ومحاسبتهم بتهمة قتل خاشقجي هم من يقود حملة توثيق العلاقة بين السعودية وتل أبيب.
على مستوى الجهود المبذولة لمواجهة إيران في المنطقة، تعرّضت خطط الإدارة الأمريكية لنكسة كبيرة مرّة أخرى. سيكون من الصعب توظيف جهود حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط ضد طهران ما لم يتم حل مشكلة ولي العهد السعودي، وإذا ما بقي في منصبه ولم يتم إحداث تحوّل جذري في تحالفاته القادمة في المنطقة، فستكون نتيجة الجهود المبذولة في هذا الصدد عديمة الفائدة.
من المفارقات في هذا المجال، أنّ تركي الدخيل، المدير العام لقناة العربية السعودية، كان قد هدّد في مقال له بأنّ المملكة ستتّجه باتجاه إيران في حال فرض عقوبات عليها، وهو الأمر الذي يطرح علامات استفهام أيضا هو مدى جدّية السياسات السعودية عندما تهدّد الأخيرة بأنّها ستتجه إلى الحضن الإيراني في أوّل اختبار حقيقي لها!
المثير للاهتمام، أنّه وباستثناء تصريح يتيم لرئيس الجمهورية الإيرانية حسن روحاني يلقي فيه اللوم على واشنطن، فإنّ السلطات الرسمية الإيرانية بقيت صامتة هي الأخرى إلى حد بعيد إزاء جريمة قتل خاشقجي. الموقف الإيراني جاء على خلفية تقييم يقول إنّ أي تدخّل لطهران في الموضوع قد يصب في نهاية المطاف في صالح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نفسه، ولذلك فمن الأفضل أن تغيب إيران عن الأنظار لبرهة لصالح ازدياد الضغوط وحملات الغضب الشعبية والدولية على المملكة العربية السعودية.
لا شك أنّ فريق ولي العهد قام بتقديم خدمة كبرى للنظام الإيراني بقتل خاشقجي لاسيما داخل الأراضي التركية. الإعلام الإيراني كان سعيداً بمثل هذا الأمر خاصةّ أنّ بقاء ابن سلمان في الحكم قد يعطي ديمومة للقنوات السياسية والأمنية الإيرانية-التركية التي ازدادت أهميتها تحديداً بشكل استثنائي بالتزامن مع صعود ابن سلمان إلى الحكم.
كفاءة تركية
فيما يتعلق بالموقف التركي، فإنّ قضية خاشقجي جاءت في توقيت غاية في الأهمّية لأنقرة سيما بعد الانتهاء من محاكمة القس الأمريكي أندرو برانسون وإطلاق سراحه. في ثنايا عملية قتل خاشقجي، كان هناك من يريد أن يلقي باللوم على الجانب التركي عندما أكّد أنّ خاشقجي قد خرج من القنصلية، وقد كان من المفترض بهذا الأمر أن يصبّ في صالح زيادة النقمة الأمريكية والغربية على أنقرة، لكن سرعان ما انقلب المشهد.
استطاعت أنقرة إدارة المشهد المعقّد بكفاءة عالية حتى الآن، وقد أجبرت الرياض على الاعتراف بالجريمة بعد أن قامت الأخيرة بتغيير الرواية عدة مرات. ساعدت استراتيجية إدارة الأزمة على تحييد الشقّ السياسي من القضية لصالح الشق الإجرائي اللوجتسي الأمني والقضائي، الأمر الذي قطع الطريق على أي محاولة لاتهام أنقرة بتسييس الموضوع أو تأزيم العلاقات الرسمية التركية-السعودية، وقد كان الهدف الأساسي من هذه السياسة الضغط على السعوديين للتعاون في التحقيقات الجنائية.
سعت تركيا للحفاظ على شعرة معاوية مع السعودية من خلال العلاقات التي تربط أردوغان بالملك سلمان، لكن الحفاظ على هذا الأمر غير مضمون طالما أنّ السعوديين لم يعترفوا بشكل كامل ويكشفوا عن الجهة التي أعطت القرار وعن مصير الجثة.
لا شك أن أداء أنقرة في ملف
اغتيال خاشقجي سيكبح من عدوانية ولي العهد تجاه تركيا ومن سياساته المتهوّرة إزاءها على المدى القصير. لقد شهدنا أولى النتائج على هذا الصعيد من خلال البيانات الرسمية غير المعتادة التي صدرت من الملك سلمان ومن ولي العهد محمد بن سلمان والتي تدعو إلى علاقات تركية-سعودية متينة.
التصريح الأخير لولي العهد السعودي على وجه التحديد كان لافتاً للغاية، حيث تحدّث عن علاقات قوية ليس مع تركيا فقط وإنما مع أردوغان شخصياً، كما ذكر كذلك دولة قطر وأشاد باقتصادها، وهي مؤشرات عن شكل التغيّر الذي من الممكن للسعودية أن تتّبعه لاحقاً. في حدّها الأعلى، قد تدفع الأزمة السعودية إلى تغيير سياساتها الإقليمية وتحالفاتها التي أنشأتها خلال العامين الماضيين، لكن في نهاية المطاف، فإن توجهات الرياض الخارجية تجاه أنقرة ستكون محكومة بمصير ولي العهد السعودي من جهة، وبكيفية إدارة تركيا لتداعيات الأزمة لاحقا.