قضايا وآراء

أنا آسف... أحيانا ما تكون جريمة

عمرو عادل
1300x600
1300x600
ثقافة الاعتذار واحدة من المظاهر الإنسانية الراقية في أي مجتمع. فعندما تصطدم بشخص في الطريق أو تدوس على قدمه بالخطأ، لا مشكلة... فلم يتضرر أحد تقريبا، ويصبح الاعتذار في هذه الحالة نهاية لكامل الموضوع، والغريب أنه يدفع المتضرر بعد الاعتذار له للابتسام والود مع الآخر فورا في غالب الأحيان.. أيضا عندما تصدم سيارة شخصا آخر أو تدمر له بالخطأ إحدى ممتلكاته، فالاعتذار اللحظي يقلل من حدة الأزمة، وخاصة مع تعويض المالك عما تدمر أو تلف. فكما قال محمد عليه الصلاة والسلام، "طعام بطعام وإناء بإناء". وما يقال عن أن الخطأ في الفعل يعفي صاحبه من تعويض المتضرر لا أصل له، وعند عدم قدرة الفاعل على دفع التعويض اللازم يعود الأمر إلى المتضرر، إما بالعفو أو بالإصرار على أخذ الحق، وهذا حق له؛ حتى لو كان الضرر الواقع عليه يمكنه تحمله بلا عناء. وتبقى التقاليد والأعراف في هذه الحالة هي الحاكمة، ولكن دون تجاوز أصل ضرورة حق التعويض.

في العقود الأخيرة بدأ مسلسل من الاعتذارات، ولكن ليست عن الاصطدام بشخص في الطريق أو تحطيم سيارة الآخر، بل عن مجازر واحتلال وتدمير حضارات وهوية وتاريخ، وربما واحد من أكثر الاعتذارات استفزازا هو اعتذار توني بلير عن غزو العراق بعد ما يقرب من خمسة عشر عاما. والمتابع لفترة الغزو يجد الكثير من المعلومات - ليس هذا مجالها - التي تشير إلى أن عصابة غزو العراق كانت تعرف الحقائق كاملة، ولكنها كذبت لحظتها وقامت بعمليات اغتيال وتشويه كامل للعقول لتمرير الغزو، إلا أن الضعف العام في الذاكرة يجعل من الطبيعي أن خمسة عشر عاما كافية لكي ينسى العالم، ويجرؤ واحد من مشعلي الحرب وضياع العراق ومقتل الملايين على أن يقف ببساطة ويعلن عن أسفه.

اعتذارات أخرى عن القصف للأطفال في أفغانستان والعراق، وآخرها في اليمن، نتيجة خطأ في المعلومات الاستخباراتية، تماما كخطأ تدمير العراق. وتبقى الكلمة الساحرة "أنا آسف" لتحل الأزمة، ولكنها في تلك الحالة جريمة تابعة للجريمة الأصلية، فلا معنى لاعتذار أنتج تدميرا وقتلا واغتصابا إلا بحل أصل المشكلة، والإقرار بالجريمة ومحاسبة المجرمين، وحل كل ما ترتب عليها من آثار كارثية قدر المستطاع، وتعويض المتضررين من الجريمة. أما الاكتفاء بالاعتذار في الهواء الطلق دون أي شيء آخر؛ فهو نوع من التخدير العاطفي، وفرض الأمر الواقع العملي، والاكتفاء ونشر ثقافة "افعل أي شيء"، ثم فقط اعتذر على الهواء وينتهي كل شيء.

فالخلط بين نشر ثقافة الاعتذار عند حدوث مستوى معين من الخطأ مع حتمية التعويض المادي عنه؛ وبين الاعتذار عن جرائم مع سبق الإصرار والترصد، أنتج كوارث على مستوى واسع تقترب من الحماقة، وهو جزء من استكمال الجريمة وليسو واحدا من مسارات الحل.

وإذا كان الاعتذار في غير موضعه ومساره جريمة؛ فإن العفو في غير مكانه جريمة أخرى، فالعفو مرتبط بالمقدرة، وعند عدم اقترانه بالمقدرة يصبح استكمالا لمسلسل الإذلال. فأعظم مفهوم للعفو في مشهد يمكن الحديث عنه هو العفو التالي لفتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، كل ذلك بعد التمكن من الفتح والسيطرة على السلطة. أما في حالات الضعف والهزيمة، فالمشهد الأعظم هو مشهد حمراء الأسد بعد الهزيمة في أُحد، عندما خرج المنهزمون في المعركة لمطاردة مقاتلي مكة ورفض النبي خروج أي ممن لم يقاتلوا في أحد.

هذه المفاهيم المؤسسة لثقافة الاعتذار والعفو يجب أن لا تغيب عن ذهننا في أي عمل عام أو حتى شخصي، حتى لا نخدع أنفسنا بمصطلحات رنانة تبدو أخلاقية وسامية، وفي حقيقة الأمر هي طريقة لتجميل الذات أو خداعها لتحقيق منفعة ما، أو الهروب من مواجهة ما أو الهروب النفسي من الإحساس بالضعف أو الهزيمة أو الانسحاق الحضاري أمام الآخر.
التعليقات (0)