الحملة التي شهدتها وسائط سعودية
على العلّامة يوسف القرضاوي، ليست جديدة. منذ زمن طويل، وعدد من كتّاب الأعمدة، وبعض "مدوّني" تويتر و"ذبابه" من السعوديين، يشنّون حملة شتائم وكراهية على الشيخ، وجاءت "تغريدة الحج" فقط لتعيد إشعال الحملة التي بدت منسّقة وموجّهة. لم يكن في التغريدة ما يُعاب، وكانت
واضحة في عدم تعريضها بموسم الحج الأخير، كما كانت، من حيثُ مضمونها، معلومة من الدين بالضرورة، ولا يختلف عليها المسلمون، وقد أوردتُ في حسابي فيديو يثبت أنها مأخوذة من خطبة للشيخ في تسعينيات القرن الماضي، ولكنّها استُغلّت وحُمّلت ما لا تحتمل؛ لأن المقصود شيطنة الشيخ، وربط ذلك بالخلاف مع قطر، وليس الرغبة في الوصول إلى المعلومة.
وتاريخيا، كان
القرضاوي مقرّبا من علماء
السعودية، بل كانت علاقته بالعلّامة عبد العزيز ابن باز أكثر من ممتازة، وكان يسمِّيه "العلّامة"، وقد سمح بتوزيع كتابه "الحلال والحرام في الإسلام" داخل المملكة منذ عقود، رغم عدم اتفاقه مع بعض ما جاء فيه، كما كان الشيخ عضوا في المجمع الفقهي الإسلامي بمكة عقودا أخرى، وكانت كتبه تُدرّس في الجامعات السعودية، ومنها كتاب "فقه الزكاة"، وقد نال جائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية عام 1994، واستقبله ملوك البلاد واحتفوا به عبر السنين، ولكن الموقف السعودي المناوئ لثورات "الربيع العربي" لم يستثن الشيخ بسبب تأييده تلك الثورات.
غير أن المدرسة
السلفية التقليدية في البلاد لم تستفد من روّادها، كالشيخ عبد العزيز ابن باز في سعة فقهه ورحابة صدره، فانكفأت على نفسها بعد وفاته، وفقدت البريق الذي كان ابن باز يضفيه عليها، واستسلمت للخطابات الرسمية، وصار جلّ تركيزها على إعادة إنتاج تلك الخطابات بنكهة "سلفية". من الطبيعي ألا تكنّ هذه المدرسة الكثير من الودّ للشيخ القرضاوي، وألا ترتاح إليه، لأسباب معقّدة منها أن التفكير السائد لدى المنتمين إلى هذه المدرسة يتسم بالانغلاق والضحالة، إذ نادرا ما يرى إمكان وجود علماء دين حقيقيين أو "ربّانيين" خارج إطارها، ويقصر، في الغالب الأعم، أهل الفقه والعقيدة في رموزها، بل الذين عاشوا وتعلّموا في منطقة نجد تحديداً، وهو تفكير خطير يجمع بين الجهل والعنصرية.
ثمّة أزمة حقيقية تمرّ بها الحركة السلفية السائدة في السعودية. وتجنح الحركة، في عمومها، إلى التشدّد، وهو تشدّد يتراوح من الوسط إلى "اليمين" المتطرف إن صح التعبير، فهي ليست تيارا واحدا. تعتقد هذه الحركة، عموما، أنها الفرقة الناجية، وتستند إلى اسمها لتبرر هذا الاعتقاد، فإذا ذُكر مصطلح "السلفية"، يتبادر إلى الذهن على الفور الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان، وهذا المعنى البرّاق يضفي الشرعية على منهج أتباعه، ويجعل التماهي معه هو الإسلام الصحيح، وعدم الانضواء تحته يعني اتباع سبيل آخر غير سبيل المؤمنين، وهو الأمر الذي يحمل في طياته أفكارا تكفيرية شديدة الخطورة.
في السنوات الأخيرة أصبح الصوت الأعلى لليمين السلفيّ المتطرّف، وتوارت السلفية المعتدلة بسبب القمع، أو الخوف من القمع. يُطلق عادة على اليمين السلفي اسم "الجامية" نسبة إلى الشيخ محمد أمان الجامي، الذي تصدّر أتباعه المشهد، وهم شراذم من ملتحين مزيّفين يمتازون بالجعجعة والغباء، ولا يختلفون كثيرا من حيث الأدوار والمآلات عن
التيار الموسوم بالليبرالي، إلا في المظهر الخارجي ولغة الخطاب. يعيد هذا التيار "السلفي" إنتاج الدعاية الدينية والسياسية للحاكم واضعا عليها "البهارات" اللازمة من نصوص دينية، ومجترّا، في خلط صادم وغريب، فكر الخوارج والمرجئة في آن، ورابطا كل ذلك بمنهج السلف، لكن لا هُم أخذوا بصدع السلف بالحق في وجوه أئمة الجور (أحمد بن حنبل وابن تيمية مثالا)، ولا أهم أخذوا بشجاعة الخوارج وذكائهم (قطري بن الفجاءة مثالا).
ينطلق اليمين السلفي، ويمكن أيضا تسميته بـ"التصهين السلفي"، من مركزية "ولي الأمر" في الخطاب الديني، فالدين يدور مع السلطان حيث دار، حتى غدا المصدر الرئيس للتشريع، فإذا رأى السلطان أن جماعة ما إرهابية، فالرأي ما رأى من غير تمحيص ولا مساءلة ولا ورَع، وإذا رأى أن التطبيع مع العدو الصهيوني أمر حكيم، فهو أدرى بالمصلحة، وإذا رأى دعم انقلاب عسكري في بلد آخر، فهو، حتما، أراد بذلك الدفاع عن حياض العقيدة، ونصرة منهج السلف، وردع الروافض والمبتدعة، بينما نلاحظ أن الطرف الآخر "الليبرالي" ينحاز إلى الانقلاب عينه، ولكن بمفردات مختلفة مثل خطورة "الإسلام السياسي"، و"الإرهاب"، وفي النهاية، لا فرق يُذكر بين الدعايتين. والمتابع مثلا لمواقف التيارين (وكلاهما ينشط في السعودية) من مقاومة حركة "حماس" للاحتلال الصهيوني يلحظ أنها متشابهة، فالتيّار المنتسب إلى الليبرالية يسخر من المقاومة بوصفها عبثيّة، عدميّة، انتحاريّة، أو خاضعة لإملاءات إيرانية، والتيار المنتسب إلى السلفية يسخر منها بوصفها إخوانية خارجة على "وليّ الأمر" (يتظاهرون بأن المقصود بالوليّ هنا محمود عباس وهم يريدون نتنياهو)، ومرتهنة للأجندة الإيرانية. في المحصّلة، الجميع يشيطن المقاومة خدمة للعدو الصهيوني.
في المنهج "السلفي" المهيمن الآن، يبدو المقدّس هو "وليّ الأمر"، وليس النصّ الذي يمكن تطويعه لإضفاء القداسة على اختيارات الولي. أما السلفية الحقيقية، فهي تتعرض الآن للحصار، وتفقد كثيرا من صدقيتها. ولذا، لا بدّ من موقف يتبنّاه علماء ومثقفون سلفيون، يعترضون فيه على اختطاف منهج السلف، ويشنّون حركة تصحيحية يبسطون فيه مواقفهم من المسائل الحرجة والخطيرة، لاسيما ما يتعلق بالعلاقة مع الحاكم، والجماعات الإسلامية وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ومفهوم الولاء والبراء، وادعاء امتلاك الحقيقة الإسلامية، الأمر الذي يستبطن التكفير والإقصاء. باختصار، السلفية بحاجة إلى "ثورة".