هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إذا لم تتضح الصورة بعد، فلا يبدو أنها ستتضح على الإطلاق: يشكل ترامب خطرا أعظم على حلفائه مما يشكله على أعدائه. هذا الرجل يشكل تهديدا حقيقيا على مستقبل أمريكا كقوة عظمى.
فخلال ثمانية وأربعين ساعة من الحراك المثير، هدد ترامب بالانسحاب من الناتو (وذلك عندما قال لزعماء هذه المنظمة إنهم إذا لم يحققوا الغاية المرجوة منهم بإنفاق اثنين بالمائة من ميزانيات بلدانهم على الدفاع فسوف يبادر هو إلى اتخاذ الإجراء الذي يراه مناسباً)، وقال للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي نشأت في ما كان يعرف بألمانيا الشرقية، إنها "أسيرة لروسيا" (مع أن الغاز الروسي في حقيقة الأمر لا يلبي سوى تسعة بالمائة من احتياجات ألمانيا)، وطعن مضيفته الحالية تيريزا ماي في الظهر حينما صرح لصحيفة "ذي صن" إن صفقة البريكسيت التي شقت حكومتها وحزبها لن تجدي نفعاً وإن منافسها اللدود بوريس جونسون مؤهل لأن يكون رئيس وزراء جيداً. ثم بعد ساعات، أعلن في مؤتمر صحفي أن تقرير الصحيفة لا يعدو كونه "أخباراً ملفقة"، مؤكداً أن العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هي في أرقى مستوى من العلاقات الخاصة.
عندما يكون ترامب في مقعد القيادة فلا حاجة للتظاهرات، وذلك أنه يقوم بنفسه بدور عظيم في السير بأمريكا نحو الهلاك.
لا تفهموني خطأً. لست من المعجبين بالمؤسسات التي تقوم عليها الولايات المتحدة الأمريكية.. ولست من المدافعين عن الناتو، الذي يتحمل بسبب توسعه شرقاً المسؤولية الأولى عن بروز روسيا عدوانية وقومية. كما أنني لست من المؤيدين لمنطقة أوروبية تهيمن عليه ألمانيا، وهي المنطقة التي أثمرت سياستها التقشفية رداً على الانهيار البنكي في عام 2008 تقويض قطاعات كبيرة من اقتصاديات دول جنوب أوروبا.
يقامر زعماء الخليج على أن بإمكانهم شراء خدمات مثل هذا الرجل. ولقد بات معلوماً وموثقاً أنهم يقومون بجهود حثيثة لإقحام أنفسهم وخططهم في ما لا يعدو كونه صفحة بيضاء في عقل ترامب وفي عقل صهره جاريد كوشنر، محاولين التأثير على الأشخاص الذين يوظفهم وعلى الأشخاص الذين يطردهم.
بعد سلسلة من التقارير المتعاقبة التي نشرت في "ميدل إيست آي" وفي "نيويورك تايمز" وفي "نيويوركر" وفي "بي بي سي" وفي "واشنطن بوست" وفي "أسوشييتد برس"، بتنا نعرف الآن من رسائل إيميل كتبها لاعبون مهمون في هذه الطغمة غير المقدسة أن صديق ترامب الملياردير توم باراك عرض مبادلة معلومات خاصة داخلية حول تعيينات المناصب العليا مع سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، وأن الإماراتيين نجحوا في ضغوط مارسوها للتخلص من وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون وإقالته من منصبه، وأن المسؤولين الإسرائيليين والسعوديين والإماراتيين دفعوا ترامب باتجاه إبرام صفقة مع بوتين، لإخراج إيران من سوريا مقابل رفع العقوبات المفروضة على روسيا بخصوص أوكرانيا.
كل هذه المقايضات تم تمريرها من خلال دفع أموال طائلة، غالباً على شكل صفقات سلاح. إلا أن المال بالنسبة لترامب لم يكن كافيا. كان باستمرار يعود ليطلب المزيد، حول سوريا، وكانت آخر إهانة صادرة عنه تتمثل في مطالبة السعوديين بزيادة إنتاج النفط.
يتعامل ترامب مع مانحيه المال بازدراء واحتقار. ولا أدل على ذلك من أنه قال للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً عن المملكة العربية السعودية: "ما كانوا ليبقوا موجودين لولا الولايات المتحدة. ما كانوا ليستمروا أسبوعاً واحداً. نحن نحميهم. وعليهم الآن أن يتقدموا ويدفعوا تكاليف ما يجري".
هذا الرجل ليس من النوع الذي يكافئ الناس على ولائهم له، بل هو من النوع الذي لا يتورع عن الإلقاء بأقرب المقربين إليه تحت عجلات الحافلة، وقد فعل ذلك مع أول مستشار له في الأمن القومي مايكل فلين، وها هو يفعل نفس الشيء الآن مع محاميه السابق مايكل كوهين، الذي يواجه تحقيقاً جنائياً بتهم الاحتيال البنكي وارتكاب مخالفات مالية في الحملة الانتخابية والقيام بتجاوزات ضريبية. وكان كوهين قد أجرى اتفاقاً مع ستورمي دانيالز دفع لها بموجبه مائة وثلاثين ألف دولار لكي تلتزم الصمت وتتستر على علاقة مشبوهة يزعم أنها كانت لها مع ترامب. إلا أن البيت الأبيض ينفي صحة هذه المزاعم.
طفح الكيل مع كوهين حول ترامب، فقد صرح مؤخراً بما يـأتي: "لن أكون كيس ملاكمة يتلقى اللكمات كجزء من استراتيجية دفاعية لأي شخص. لست أنا المجرم في هذه القصة، ولن أسمح للآخرين بالسعي لتصويري كما لو كنت كذلك".
أجندة مشتركة
بات واضح كعين الشمس أيضاً أن جميع القوى الأجنبية التي وضعت ترامب نصب أعينها، سواء خلال حملة الانتخابات الرئاسية أو ما بعد ذلك، كانت لديها أجندات يشكل الرئيس الأمريكي أحد أركانها..
فقد قرأت كل واحدة من تلك القوى، وكانت محقة في ذلك، أن أمريكا تتراجع كقوة عالمية، فأرادت اغتنام الفرصة لملء الفراغ سعياً لأن تصبح هي القوة الإقليمية المهيمنة.
خذ على سبيل المثال الحرب في اليمن وحصار قطر ثم صفقة القرن، التي تسعى لفرض تسوية على الفلسطينيين دون منحهم أياً من حقوقهم الأساسية، والمعترف بها دولياً، وأخيراً الحرب ضد إيران، كل ذلك ما هو إلا جزء من نفس الخطة التي وضعتها وتنفذها نفس المجموعة من الناس – المملكة العربية السعودية والإمارات وإسرائيل.
عندما كتبت قبل أربعة أعوام وقلت إن هجوم إسرائيل على غزة كان بتحريض ملكي سعودي، رد علي حينها سفير السعودية في بريطانيا الأمير محمد بن نواف شخصياً من خلال "العربية" قائلاً:
"من الصعب أن نصدق مثل هذه التخريفات المطلقة، ومثل هذه الأكاذيب التي لا أساس لها، يمكن أن تكون مكتوبة من قبل شخص يزعم أنه رئيس تحرير لأي وسيلة إعلامية".
أما اليوم فلا يبذل السعوديون حتى أدنى محاولة لنفي علاقتهم الأمنية بإسرائيل أو دورهم في الخطة التي من الواضح بشكل لا لبس فيه أنها تحرم الفلسطينيين من أبسط حقوقهم، بما في ذلك حقهم في أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية وحقهم في عودة اللاجئين ولو جزئياً أو بشكل رمزي، رغم أن هذين الأمرين متعارف عليهما دولياً كمطالب شرعية.
كتب السفير السعودي في عام 2014 يقول: "الشعب الفلسطيني إخواننا وأخواتنا - سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين عربا. وتأكدوا أننا، نحن شعب وحكومة المملكة العربية السعودية، لن نتخلى عنهم، وسوف نفعل كل ما بوسعنا لمساعدتهم في مطلبهم الشرعي للعودة إلى وطنهم والأراضي التي استولت عليها إسرائيل بصورة غير مشروعة بل بلغة النار والقهر والظلم".
حسناً، هذا هو التعهد الذي لم يعد ثمة شك بأن الملك سلمان وابنه محمد ينكصان عنه اليوم.
ثم تأتي هلسنكي
بعد أن هز أركان الناتو، وأهان ميركل، ووضع عصا غليظة في عجلة خطة تيريزا ماي للخروج من الاتحاد الأوروبي، ينطلق ترامب إلى هلسنكي ليقابل فلاديمير بوتين. وهنا بإمكانكم أن تطمئنوا إلى أن ترامب سيكون في أخس حالات الصغار والتذلل.
أما بالنسبة لبوتين فسوف تمثل المناسبة له مفارقة شهية. فتلك ستكون المرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة التي يخطو فيها رئيس روسيا الفيدرالية ليصافح يد رئيس الولايات المتحدة كند مكافئ له، وليس كشخص يمكن أن يخاطب من فوق أو يكون في موقع المتلقي للوعظ.
لقد دارت عجلة الحظ. ولا بد أن بوتين تراوده الآن أفكار تجعله يتيقين من وجود إله روسي أرثوذكسي في السماء.
بالنسبة للشرق الأوسط، يبدو واضحاً ما هو الدرس الذي يستفاد من ترامب، ألا وهو أنك بغض النظر عما تدفعه له من أموال، فسوق يستخدمك لأغراضه هو ثم يتخلى عنك ويلقي بك جانباً. أدركت ميركل ذلك، ولربما تكون تيريزا ماي قد أدركته أيضاً. فهذا رجل لا تملك إن تناولت الحساء معه من قصعة واحدة إلا أن تستخدم ملعقة طويلة جداً.
المقال منشور أصلا في "ميدل إيست آي"- ترجمة "عربي21"