هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وصل مستوى الفساد المالي والسياسي والإداري في لبنان إلى درجة أنه لم يعد يختلف لبنانيان على نبذ الطبقة السياسية الحاكمة والتي هي الأخرى يسود الإجماع في صفوفها على أن هذا الفساد ينخر في عظام الدولة ومؤسساتها.
أكثر من ذلك لم يعد نادراً أن يتهم وزراء في الحكومة نفسها بعضهم بعضاً بالهدر والفساد وانعدام الكفاءة، وذلك على الملأ من على شاشات التلفزة وصفحات وسائل الإعلام. لم يعد الفساد تهمة بل بات أمراً عادياً يحكي عنه المواطنون، سراً وعلانية، ويتناقل أخباره الصحفيون والمراقبون.
فالكهرباء مقطوعة من عقود طويلة في "بلد الإشعاع والنور" والمياه شحيحة في "بلد الأنهار والينابيع" والنفايات تنتشر في الشوارع في "سويسرا الشرق" والبطالة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، والدَّين العام يزحف إلى المئة مليار دولار وخدمة هذا الدَّين تأكل موارد الدولة ومداخيلها...الخ.
خلال سنوات الوصاية السورية، كانت لوائح المرشحين في الانتخابات تأتي جاهزة معلّبة من دمشق ومعها قانون الانتخابات الذي كان أكثرياً على الدوام. ورث اللبنانيون وآخرها قانون أقر في العام 1960 مع تعديلات لمصلحة القوى النافذة.
كان لا بد من تغيير هذا القانون، وقد بذلت محاولات عديدة ومفاوضات مضنية للتوصل إلى قانون انتخابي جديد، انتهت في يونيو/حزيران 2017 بالاتفاق على قانون يقوم على النسبية مع الصوت التفضيلي وتقسيم للدوائر بطريقة ترضي الزعماء الأساسيين.
من المعروف أن القانون الانتخابي النسبي يتسم بعدالة التمثيل أكثر من القانون الأغلبي، لأنه يعطي كل حزب سياسي يخوض الانتخابات عدداً من المقاعد يوازي نسبة الأصوات التي حصل عليها. القانون الأغلبي أسس في لبنان لظاهرة "المحادل" التي كانت تتيح للزعماء السياسيين - الطائفيين، وعددهم نصف دزينة تقريباً، أن يحصد كل منهم كل المقاعد في دائرته بمجرد حصوله على الأغلبية البسيطة من الأصوات (51%) ويخسر خصومه كل شيء.
اعتماد النسبية ولو عبر قانون هجين ومعقّد فتح الأمل بدخول دم جديد إلى المجلس النيابي، خاصة أنه لم يعد هناك من وجود حقيقي لتكتلي 8 و14 آذار، وأن التنافس يجري بين اللوائح، ولكن في داخلها أيضاً بسبب الصوت التفضيلي، وأن أحزاباً قد تتحالف في دوائر وتتخاصم في أخرى، ما يمنع تشكيل "محادل" كما كانت عليه الحال.
والأمل بالتغيير كان منطقياً، بسبب فشل الطبقة السياسية الحاكمة وإخفاقاتها المتكررة، ولأن تجربة الانتخابات البلدية لمدينة بيروت في العام 2016 كانت مؤشراً على إمكانية مثل هذا التغيير. وقتها تم تشكيل قوة منافسة للحكومة من أشخاص من المجتمع المدني اعتمدوا برنامجاً انتخابياً مغايراً للأحزاب التقليدية الطائفية، وشكّلوا لائحة باسم "بيروت مدينتي" حصدت نحو أربعين في المئة من الأصوات، رغم إمكاناتها المالية المتواضعة جداً، فطرحت بذلك تحدياً للأحزاب التقليدية التي تحكم قبضتها على الحياة السياسية.
جرت الانتخابات النيابية اللبنانية في السادس من الشهر الجاري، وذلك للمرة الأولى منذ العام 2009، على أساس القانون النسبي الهجين، واعترتها شوائب وتجاوزات، لكنها بقيت ضمن حدود معقولة لا تطعن بنتائجها، رغم أن نصف اللبنانيين غابوا عن الاقتراع، إما ليأسهم من إمكانية التغيير وإما لعدم فهمهم لقانون الانتخاب الذي يطبق للمرة الأولى.
من دون الخوض بالأرقام والتفاصيل، يمكن القول إن نتائج هذه الانتخابات، جاءت لتصيب بخيبة أمل كبرى كل المراهنين على الإصلاح. اتسمت الانتخابات بطابع طائفي مذهبي مناطقي عشائري مقيت. تم اللعب على العصبيات الطائفية والمذهبية والمصالح الفردية والمشاعر والمخاوف والهواجس في غياب برامج انتخابية واضحة. دخل دم جديد ونواب جدد، لكنهم أولاد نواب وزعماء قرروا التخلي عن مقاعدهم لأولادهم، وكأن المقعد النيابي ملكية يمكن توريثها للأولاد والأحفاد. والحق يقال إن الشعب ارتضى طائعاً مختاراً أن ينتخب الأبناء كما كان يفعل مع الآباء.
عادت الطبقة السياسية نفسها، والمجلس الجديد لن يختلف في شيء عن سابقه بل عن سابقيه، وبالتالي فمن المنطقي توقّع عودة السياسات نفسها مع ما يرافقها من فساد وزبائنية ومحسوبيات وغيرها. ما حصل هو أن أياً من القادة الطائفيين - السياسيين أو أحزابهم لم يتلق ضربة قاصمة على أيدي الإصلاحيين ونشطاء المجتمع المدني. وهؤلاء الأخيرون ارتكبوا جريمة بحق أنفسهم وحق الحالمين بغد أفضل، عندما عجزوا عن التكتل وتنافسوا فيما بينهم فكثرت لوائحهم وقلّ ناخبوهم.
مهما يكن من أمر، قال الشعب كلمته، والشعب الذي ينتخب حكاماً يصفهم بالفاسدين والمفسدين ليس شعباً ضحية بل شريك في الجرم. كما تكونون يولّى عليكم.
جريدة الخليج الإماراتية